قضية للمناقشة: قضايانا فى «النص والصورة»

116

لأننا نضع النقد الأدبي والنقد الفني بدرجة أقل، ضمن مكونات الثقافة الرفيعة التي تتعامل مع العارفين بها من المثقفين المتخصصين رفيعي التخصص، فإننا نغلق الباب على التفكير العميق الناقد، ليصبح حكرا على مجموعات محدودة من المواطنين، فضاعت فرص كبيرة على ملايين الذين يقرأون ويشاهدون الأفلام ناهيك عن المسلسلات التليفزيونية لكي تتجاوز المتعة التي يجنونها من القراءة والمشاهدة عملية الترفيه العابر لتحفر فى وجدانهم ومخيلتهم الجمعية علامات على طريق الارتقاء المعرفى والأخلاقي، ومن ثم الإسهام الخلاق فى الشأن العام وتغيير الواقع.
وتصيب آفة العزل والاغتراب هذه بعض أهم الكتب والأفلام والبرامج والرسائل الجامعية التي تملأ الحياة الثقافية وكأنها لم تكن، فلا يتسابق عليها القراء والمشاهدون، ولا تفجر النقاش الذي تستحقه.
ومن ضمن مئات الكتب المهمة التي صدرت مؤخرًا وكأنها لم تصدر، كتاب لأستاذة الأدب الفرنسي الدكتورة « سلمى مبارك «النص والصورة، السينما والأدب فى ملتقى الطرق، وذلك باعتبار الأدب والسينما شركاء فى تاريخ تفاعلي يجمعمها، ويربط بينهما بالعديد من العلاقات العبرنوعية».
رصدت الباحثة تلك العلائق المتشابكة بين الأدب والسينما، بين الكلمة المكتوبة وبين عملية ترجمتها إلى صور مرئية وإيقاعات محسوسة فى محاكاة خيالية ومعقدة لحياة البشر وعلاقاتهم، مع استخلاص الدلالات والمعاني سواء كان المبدع روائيا أو سينمائيا واعيا تماما بها أم لا إذ تنطوي النصوص الإبداعية على مستويات للمعنى والدلالة.
تقف الباحثة بأدواتها ومعارفها النقدية والجمالية أمام مجموعة من أهم الأفلام التي جرى إنتاجها اعتمادا على هذه النصوص، وذلك بعد قراءة لعلاقة أربعة من أكبر أدبائنا مع السينما هم: «عباس محمود العقاد» و«طه حسين» و«يحيي حقي» ثم « نجيب محفوظ « الذي مارس كتابة السيناريو السينمائي طويلا قبل أن يتفرغ تمامًا للكتابة الروائية، وهي تفتح بذلك بابا لباحثين جدد ليتابعوا أثر السينما على الأساليب والرؤى فى عالم هؤلاء الكتاب، وقد أطاحت الباحثة بفكرة التراتبية بين الفنون والتي مازالت السينما تحصل فيها على درجة أقل من درجة الأدب. وما لم تقله أن الدراما التليفزيونية تأتي فى درجة أدنى من الرواية والسينما وهو ما سبق أن رفضه مبدع كبير هو أسامة أنور عكاشة.
وواصلت الباحثة كشف تلك العلاقة الملتبسة بين الأدب والسينما، كاشفة كيف أن أدب الستينيات وكان مصدرا مهما من مصادر السينما كان قد انخرط فى مشروع الحداثة بشكل أعمق وأوسع من السينما المصرية.
وقد ارتبطت الحداثة فى الأدب عالميًا بنشأة المدينة الصناعية فى منتصف القرن التاسع عشر، ثم جاءت نشأة السينما فى ذات الوقت مواكبة لأزمة أطاحت بثوابت عمليات الإدراك البصري، فلم تعد رؤية العالم واضحة وبالتالي أصبح التعبير عنها إشكاليا.
سوف أتوقف أمام فصلين فقط من فصول هذا الكتاب الثالث بعنوان « رواية جديدة.. سينما جديدة «، والثالث فى الباب الثالث « شكاوي الفلاح الفصيح قصة بعث من الأدب إلى السينما « والجديد هو ما جاء به مجموعة من السينمائيين بدأوا العمل فى الثمانينيات وهم :» عاطف الطيب «، «محمد خان»، «خيري بشارة»، «رأفت الميهي»، «داود عبد السيد»، «بشير الديك». وتشكلت الفلسفة الخاصة لهذه الجماعة فى ظل صدمة 1967، فقبل 1967 كما يقول خيري بشارة «كنت تنظر بانبهار لإنجازات كبيرة: السد العالي مجمع الألومينيوم وغيرها كثير، ولكن بعد 1967 أخذ التفكير يتجه للإنسان البسيط. ثم بدأت الملامح الفردية تتكشف».
وظلت السينما مع ذلك ملتزمة بالهم المجتمعي فى امتزاجه بأزمات الفرد، ولكنها عبرت عن ذلك كله بشكل واقعي جديد مستخدمة السخرية والفانتازيا وصولا إلى الشكل الفلسفى أو الميتافيزيقي.
وبرز فى عالم الرواية الجديدة من «صنع الله إبراهيم» و«بهاء طاهر» و«جمال الغيطاني» و«يحيي الطاهر عبدالله» وغيرهم وتبنت الرواية الجديدة أساليب مختلفة خارجة على التقاليد السابقة مثل مصاحبة البطل المعتاد، وتعدد وجهات النظر واستخدام المونولوج الداخلي وتيار الوعي، واستخدام التقنيات السينمائية، وتفكيك البنية السردية الخطية… إلخ.
وجرى فى عالم هؤلاء التزاوج بين قيم الرفض التي تعلي من شأن الحرية والذاتية، وبين الرغبة الملحة فى الالتزام بالواقع.
وفى قراءتها « لشكاوي الفلاح الفصيح « ذلك النص المصري الذي يصل عمره لأربعة آلاف عام، ثم النص السينمائي الذي أبدعه « شادي عبد السلام « ليحول القصة من قضية الفلاح الخاصة إلى قضية العدالة العابرة للمكان والزمان، بعد أن كان قد ولد جدلا بين الحاضر والماضي، وخلق امتداد التاريخ المصري عبر تاريخ الإنسانية إمكانية لطرح فلسفى لقضية العدالة يتجاوز آنية الطرح السياسي وإن كان النص القديم أكثر جرأة فى طرحه لقضية الفساد والاستغلال فى نقده للفرعون.
وهكذا تضيئ الباحثة فى قراءتها للنصوص المختارة بعض أهم القضايا فى واقعنا الحاضر، من تسليع الإنسان فى «الحريف» «لمحمد خان» لبيع الوطن للقادرين فى « الكيت كات «لوضع المرأة فى «البوسطجي» وهو ما يحتاج إلى قراءات أكثر شمولا لهذا الكتاب المهم بل وأقول التأسيسي، فتحية «لسلمى مبارك».

التعليقات متوقفه