عـدو الرأسمالية اللدود

112

على نسر

قد تلتقي معه وقد تختلف، قد تحبّه أو تكرهه، تُعجب بلحيته المهملة كإشارة إلى الاهتمام بالقضايا العامّة، أو تستفزّك بتغيّر ألوانها نتيجة امتداد السنين والعقود على وجودها. إلا أنّ ما يلتقي الجميع حوله، هو أنّ فيديل كاسترو هو مِن أواخر المتبقّين، التاركين بصماتهم واضحة على صفحات التاريخ العالمي، المسهمين فى صناعته إبّان القرن العشرين، القرن الأكثر شهادة على التبدّلات والتحوّلات العالمية على مختلف الصعد.
مركّبةٌ شخصيّة هذا الرجل، الّذي يختزل فى وجوده شعبًا، ويشكّل محطّة إلهام للعديد من الحركات الثورية فى العالم التي دعمها، هو وصديقه الّذي سبقه إلى الموت بطريقة مختلفة، إذ لم يفارق الميدان العسكري، إرنستو تشي جيفارا. فقد اختلفت سماته الثورية نظرًا إلى مكوثه فوق كرسيّ الحكم لما ناف على خمسة عقود، تراوحت بين رئيس الوزراء، ورئيس البلاد، وقائد القوات المسلّحة، وماسك زمام الحكم بوسائل مختلفة لم يغب عنها احتكار السلطة ومقارعة الخصوم والمعارضين، وصولاً إلى توريث الحكم لشقيقه ومشاركه فى الثورة.
لقد عاش كاسترو ثائرًا، وأملاً ينتظره آلاف الكوبيين حين كانت المبادئ الثورية يوتوبيا يحلم بها جميع المقهورين. استمرّت هذه المبادئ على هذا النحو، وبوتيرة تصاعديّة لحوالي ثلاث سنوات امتدّت بين 1956 و1959، حين رسا المركب الذي أقلّه وثمانين من رفاقه من المكسيك، على شواطئ كوبا، ليجدوا أنفسهم قاطنين الجبال الوعرة، والأدغال المجهولة، تزداد آمال مَن ينتظرهم فى القرى والمدن، ليتحقّق ذلك ويدخل هافانا دخول الفاتحين. بدأت الأيديولوجيا الثورية واليوتوبيا التي ستتغيّر حين تصادم الواقع، تنحرف عن سكّة ولادتها، وراح الامتداد العسكري يطغى على الامتداد الفكري. تميّز حكمه بمميزات عديدة، تأتي على رأسها كثرة الأزمات التي رافقت انتصار الثورة، فمن تأميم الشركات، إلى أزمة الصواريخ النووية 1962، ونزول الجيوش على شواطئ خليج الخنازير بغية اجتياح كوبا، ومحاولات اغتياله التي فاقت الـ 600 مئة محاولة، ثمّ انهيار الاتحاد السوفييتي الحاضن الرسميّ للجزيرة الكوبية وثورتها، وصولاً إلى العلاقة مع الفاتيكان والزيارات التي حصلت. كلّ هذا يؤكّد إشكاليّة هذه الشخصيّة الّتي تستحق لقب الأمير أو الحاكم، بالمفهوم الميكافيللي. إذ على الأمير أن يثبت أنّه صديق وفيّ أو عدوّ لدود، وأن يتجنّب الطريق الوسط التي لا تكسبه صديقًا ولا تريحه من عدوّ. وهذه أبرز الصفات التي يمكن أن نقول إنّ كاسترو تحلّى بها، فظلّ وفيًّا لكلّ أصدقائه السائرين على طريقه، وبقيت الامبريالية والرأسماليّة بمعناها الاستعماري، عدوّه الذي لم يكلّ عن مقارعته. وبقي الزعيم الكوبيّ النقطة الأولى على برامج الانتخابات الأمريكية التي تعددت فى العقود الخمسة، لكنّ رؤساء كثيرين تبدّلوا فى الولايات الأمريكية، وبقي كاسترو عصيّاً على السقوط، ولم تتبدّل سوى ألوان لحيته التي رافقته هذه المدّة الطويلة.
لم يخذل الشّعب الكوبيّ زعيمه يوم اختلطت الأوراق وسقطت المنظومة الاشتراكية فى أوروبا الشرقية، وبعدها السقوط المدوّي للاتحاد السوفييتي الراعي الأساس لتلك الثورات والحركات، بل أثبت الشّعب الكوبيّ إخلاصه لقائد تحريره، لأنّ الثورة الكوبيّة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الدول الاشتراكية الأخرى. فدول أوروبا الشرقية أسقط السوفييت عليها حكّامًا من دون اختيار الشعوب، فأسقطتهم حين تسنّت لها الفرصة. بينما كاسترو ورفاقه اختارهم الشعب وانتظرهم سنوات ولبّى نداءاتهم فى الإعلان عن التمرّد والعصيان والاضرابات. أما اللافت الأكبر فيتمثل بعدم اجتياح الولايات الأميركية جارتها الشيوعية، فى الوقت الذي طالت أذرعها مناطق أكثر بعدًا، فى زمن وجود الاتحاد السوفييتي، وفى زمن غيابه. فقد التزم الأمريكيون بالاتفاق الذي حصل بين كينيدي وخروتشوف، والذي يقضي بعدم احتلال كوبا مقابل سحب الصواريخ من الجزيرة، وسحب القاعدة الأميركية من تركيا وقتها. والكلّ يعلم أنّ أزمة الصواريخ وضعت العالم على عتبة حرب عالمية ثالثة، وكانت هويتها نووية بامتياز. وهي أزمة شكّلت أبرز أوراق المركز الشيوعي فى الأطراف، إذ عادلت أزمة برلين وحصارها، وحروب الـ56 والـ67 فى العالم العربيّ. وكلّ ما استطاعت أمريكا فعله هو محاصرة الجزيرة عقودًا من الزمن. لكنّ التحدّي كان أقوى حين قضى الحكم الكوبي على الأميّة بنسبة عالية، وتحدّى الحصار الاقتصادي بطفرات اقتصادية أكثر ما كان للعامل السياحي دور فيها.
لكنّ هذه الإنجازات لم تكن هي الوحيدة فى معرفة الأجيال المتعاقبة لشخصية هذا الرّجل. بل إنّ تربّعه على كرسي الحكم الذي أزاح عنه سلفه باتيستا، هو الّذي غرس صورته فى أذهان الناس. وهذا ما لم يحمِ مسيرته من الإخفاقات حيث الانقلاب على ما كان يثور من أجله. فقد تحوّلت الثورة إلى مكتب شبه بوليسي، غيّب الأحزاب باختزال البلاد بحزب الحاكم الأوحد، ولم يُعطِ دورًا للمعارضة لتكون سببًا من أسباب تشريع حكمه على الأقلّ. وهذا ما غلبت به الدّول الرأسمالية أعداءها، إذ كانت وما زالت ترعى المعارضات التي تسهم فى تثبيت حكمها. لكنّ الحكم فى كوبا لم يختلف كثيرًا عن الحكم فى العديد من الدول، ومنها العربية والإسلامية، إذ ألغى تناوب السلطة، ليصبح بيروقراطيًّا كما هي الحال فى ديكتاتورية الدول الأخرى، وثيوقراطية العديد من الدول الملكية والجمهوريات الإسلامية منذ الخلافة، حيث الإمام والفقيه والخليفة لا يغيّبه سوى الموت، خصوصًا عندما تكون شرعيته مما هو فوق الواقع، ويصبح أعداء الأمّة الوهـميّون فى كثير من الأحيان، سببًا فى تشبّثه بالكرسيّ.
نقلاً عن السفير

التعليقات متوقفه