رأى دبلوماسى.. صديقى اليابانى

36

– عرفته أثناء جولة سياحية لعدة أيام فى جنوب تركيا،يابانيا جاء بمفرده، وفى يده آلة التصوير.يرتدي ملابس ليس بها ما يلفت من الشكل واللون. ينصت بإمعان، ولا يبادر أحدا بالحديث، أو الجلوس الي جواره.تكاد لا تشعر بوجوده، فحتي لو وجه للمرشد سؤالا عاديا، يبدو وكأنه فى غاية الدهشة والشغف والرجاء للرد والشكر الجزيل لهذا التفضل بالاستجابة.
– مع ما ظننته من مبالغة منه فى التأدب بحكم تقاليد موروثة، لا تتيح للفطرة التلقائية الانطلاق والتمتع بالحياة بعلاقات قلبية مثمرة ومبهجة، إلا أنني بحثا عما هو وراء تلك الأفكار المسبقة، قررت مشاغبته بالتدريج.
– بدأ الحديث نمطيا،معلومات أولية نتبادلها عن كل منا. هو أستاذ جامعي فى علم القانون الجنائي، لكن بلاده ليس فيها من الجنايات ما يكفى لشغل أوقات عمله، فتوفده فى إجازات دورية لعدة أشهر فى بلدان أخري، ينهمك فيها فى مزيد من البحث فى المكتبات فى مجال عمله للتعرف على التجارب الدولية، بالإضافة الي اهتماماته الثقافية، لإثراء نفسه بفنون وآداب وتاريخ ومعارف تلك الدول.
– لكن تواضعه و عقليته الباحثة المندمجة تجعلانه يمتنع عن التفاخر بالنفس، وعن البحث عن تقدير الغير واهتمامهم بمشاركتهم الحديث فى مجال عمله،بل يطلق تلك العقلية لاستكشاف المزيد من مصادر المعرفة المتاحة من حوله.
– وهكذا بدأ الحديث عن السياسة التي جلبت أحداثها فى العالم العربي استقطابا وخلافات شخصية وتجريحا وتخوينا، لاستكشف أنه متابع جيد، ينصت باهتمام، و يزن الأمور من جديد، فيبدي التقدير البالغ إذا اقتنع بشيء، أو تلقي معلومة هامة. يتحدث على مهل، ويجاهد للتعبير بأدق وأرق الكلمات، التي يضغط على حروفها عند النطق، لتنقل صدق القناعة و الشغف. ويبدو و كأنه طرف حاني على مرامي الجميع، يستوعب الكل، حتي تكاد لا تصدق أنه من الممكن أن يعادي أحدا، أو يغضب من أي استنتاج أو حقيقة يسمعها. ولو استؤنف الحديث فى يوم تالٍ لوجدته قد رجع الي مقالات وكتابات على الشبكة العنكبوتية، ويجييء لمقارنة الأفكار واستئناف البحث بدهشة طفل، واندماج باحث، وتفاني ناسك، جعل من مكتبته صومعة، تنسيه الوقت والجهد والمألوف من مباهج الحياة، حتي تكاد تصدق أنه قد تخلي عن الأنا.
– عدنا بعد الرحلة الي فيينا، وتعددت اللقاءات لممارسة الرياضة، فوجدته دائما مستعدا بعيدا عن الاشتراط لمشاركة، قد تظنها مجاملة، و لكن تثبت الأحداث أنه يتمتع برغبة كريمة فى إسعاد الآخر، ومرونة بالغة مع اكتفاء والاستقلالية، يستطيع بها أن يستفيد ويتمتع بالوقت المشترك بشكل ما وبلا حدود.
– تكشف الأيام عن مدي الصدق و الالتزام،إذ تجده يجاهد للبحث عن أقيم هدية يسعد شريكة حياته بها، مهما كلفته، تجده يدعوك فى أفخم المطاعم لتتعرف على مأكولات بلاده على أفضل وجه. يحدد الموعد قبلها بإسبوع، و يجييء قبل الموعد، ويشكر لك قبول الدعوة. ثم يبعث برسالة إليكترونية بعد المناسبة معبرا عن مدي سعادته وشكره للمشاركة.
-شاهدت فى التلفاز حفل نهاية العام للموسيقي الكلاسيكية، الذي يحضره نجوم المجتمع ومشاهير السياسة والفن من النمسا والعالم، فوجدت الكاميرا مسلطة عليه تكرارا.سألته فى مقابلة تالية إن كان من الحاضرين، فرد بتواضع بالإيجاب، لأنه حصل على تذكرة بسعر مخفض، و استجابة لفضولي أفاد بأنه ستمائة و اربعون يورو، أي ما يزيد على خمسة آلاف جنيه. و يقينا مالم أشاهده فى التلفاز لما أثار الأمر من أساسه.
– فى غمرة مشاغل الحياة التي يخوضها بعض منا، بقدر من الوحدة، و قدر من البحث عن التقدير، و قدر من التعجل، قد لا نستطيع أحيانا ان نتجنب البحث عن نقاط تميزنا عن الأخرين، و لا نقدر على استبعاد الافكار المسبقة و المصالح الشخصية، فننتج عالما من الصراع، البقاء فيه للأقوي، حتي لو كان بأمان مؤقت، و على حساب الآخرين، حتي لو أثار ذلك مشاعر سلبية كالعداء و الكراهية و تلوث الصفاء. و لكن ماذا لوتمهلنا لنمعن النظر فى من حولنا، فقصة ذلك الصديق التي نسجها فضولي قد تظهر شيئا جديدا؟ ماذا لو أكن ألاحظ فى ذلك الصديق مدي العناية و التفاني و التواضع و الدقة و الكرم و المصداقية و الرقة و التأدب و الحساسية و الحنان؟ الإنسان عدو لما يجهله، فلماذا لا نفهم ثقافات و تقاليد تلك الشعوب، لننتقي ما يناسبنا؟
– سألته عما يميز المجتمع الياباني، فأجاب بأنه الانتماء للمجموع، و ليس للفرد. فهل يحقق ذلك الانتماء الطوعي السلام للجميع و مصلحة الفرد كحصيلة نهائية؟ و هل امتدت تلك المسالمة من بعضهم الي المستوي العالمي من خلال علاقاتهم الفردية بالأجانب؟ تساؤلات قد تريدون إعمال الفكر فيها، إذا ما أعجبكم ذلك الصديق.

السفير دكتور هادى التونسى

التعليقات متوقفه