قضية للمنافشة: المسيحيون وكنائسهم

50

قالت المرأة الشابة التي فقدت أحباء فى تفجير الكنيسة الأخير فى الإسكندرية: لكن لم يحدث شيء، ولا شيء تغير وعادت ريما لعادتها القديمة. كانت المرأة تتحدث بأسى عظيم، وعلى حد قولها إنه فى البدء كانت مأساة الجميع، وبعد أن بردت النار قليلا أو زال بعض الخوف نسينا الجميع وأصبح علينا نحن أسر الشهداء أن نتحمل الأعباء وحدنا وأن ننكفئ على حزننا الخاص، ونبحث عن حلول تخصنا لأن المجتمع أهملنا.
لخصت المرأة عبر الألم والدموع الحالة السياسية العامة فى البلاد فى مواجهة الموجات الإرهابية الجديدة التي استهدفت المسيحيين وكنائسهم منذ تفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية فى الأول من يناير عام 2011، وفى الخامس والعشرين منه انفجرت الموجة الأولى من الثورة وكان ما حدث للكنيسة أحد دوافعها الفرعية. وتطلع المصريون عبرها لتغيير حياتهم إلى الأفضل، بدءًا بإزاحة شعار القبضة الباطشة للدولة التسلطية حين رفع المتظاهرون شعار الكرامة الإنسانية، وبلوروا بصورة عبقرية جماعية كل أهدافهم فى حزمة واحدة بدءًا بالعيش ثم الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لتأتي الموجة الثانية من الثورة فى الثلاثين من يونيه عام 2013 لتضيف الهدف الخامس إلى المنظومة، وهو « لا للدولة الدينية « رفضًا للخلط بين الدين والسياسة، وهو الخلط الذي كان أحد الدوافع الإيديولوجية لقوى الإرهاب باسم الدين والتي وجهت ضرباتها للمسيحيين، الذين تعرضوا منذ ذلك الحين لأذى مركب سواء مارسته الدولة التسلطية أو مارسته هذه الجماعات المتطرفة المرتبطة عضويا بالمشروع الإمبريالي الذي يستهدف تقسيم المنطقة كلها على أساس ديني طائفى وعرقي، وذلك لمصلحة إسرائيل التي تجد الآن أن الظروف مواتية للاعتراف بها كدولة يهودية.
وسوف يندهش الكثيرون وهم يتوقفون أمام ما أسميه دور الدولة التسلطية فى إيذاء المسيحيين المصريين، لأن فى ذلك الوصف تناقضًا صارخًا مع الخطاب الإنشائي والمديح العالي والرعاية الشكلية التي تقدمها لهم الدولة.
فإذا عدنا إلى مسئولية السلطة القائمة، التي طالما اندمجت فى الدولة على مدى عقود، عن تكاثر الأحزاب القائمة فى البلاد الآن على أساس ديني، والتي تنفق ببذخ تعرف الأجهزة مصادره جيدًا على دعايتها، وفى القلب من هذه الدعاية التحريض ضد المسيحيين وضد النساء، وعدنا إلى الوراء قليلا إلى الدور الذي لعبه المجلس الأعلى للقوات المسلحة أثناء إعداد الدستور الجديد وقبل ذلك فى الإعلان الدستوري لسنة 2011، وكان فى ذلك الوقت متوافقا مع الإخوان المسلمين ساعيًا لتمكينهم من « إنشاء حزب « الحرية والعدالة «، وكذلك تمكين السلفيين من إنشاء حزب « النور « أعاد المرجعية الدينية التي كانت محظورة طبقا للتعديل الدستوري الذي أدخله « مبارك « على دستور 1971 وجرم فيه قيام الأحزاب على أساس ديني أو مرجعية دينية، وحين جرت كتابة دستور 2014 أسقطوا النص على المرجعية الدينية فى المادة 74 فى باب نظام الحكم، وهكذا توالدت الأحزاب الدينية.. يقال عشرة، ولا يستطيع أحد بحكم القانون والدستور أن يوقف عملها التخريبي المنظم لعقلية الشباب خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار حالة البطالة واليأس التي يغرق فيها الآلاف منهم، ويصبحون فريسة سهلة لهذه الجماعات، كذلك فإن الفراغ الفكري والسياسي يدفع بآخرين إلى نفس الطريق.
ويتبارى المحللون السياسيون والمتحدثون فى برامج « التوك شو» فى الاستخفاف بما اسموه التفسير القديم الذي تأسس على ضرورة المعرفة العميقة بطبيعة البيئة الاقتصادية والاجتماعية التي ينتعش فيها التطرف، واستبعد هؤلاء الفقر والبطالة كأسباب قوية ضمن سياق أشمل تحكمه متغيرات إقليمية وعالمية طابعها الأساسي الأزمة العميقة التي دخلت فيها الرأسمالية العالمية رغم الغنى الفاحش والتقدم العلمي المذهل، وهي الأزمة التي طالت أيضا رأسمالية الهوامش كما فى حالتنا.
ومع ذلك لا تستطيع لا القوانين ولا الدساتير وحدها أن تغير الواقع، وإن بقيت أدوات تمكين، فالتغيير هو عملية نضالية وصراعية طويلة المدى لابد أن تنخرط فيها كل القوى صاحبة المصلحة فى هذا التغيير، والمسيحيون فى القلب منها.
القيود على الحريات العامة عقبة كأداء فى طريق هذا الانخراط الضروري فى النضال، بينما يدعونا كل ما جرى وبالحاح لإعادة النظر فلي حزمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، « الليبرالية الجديدة « التي تعمل الآن ضدها كل القوى الحية فى العالم، والتي تدافع أيضا بكل ما تملكه من طاقات فى ظروف غير مواتية عن الحريات العامة التي هي الأداة الرئيسية للمكافحين من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية الذين أسقطوا بتضحياتهم مشروع الدولة الدينية فى بلادنا وبينهم المسيحيون، وسوف يواصلون الكفاح دفاعا عن أهداف الثورة متسلحين بالمعرفة والأمل، ويعرف المسيحيون المستنيرون أن قضية كنائسهم تقع فى صلب مسألة أشمل.

التعليقات متوقفه