قضية للمناقشة: موت السياسة المعلن

46

يستطيع المراقب للشأن العام أن يستخلص من الحديث المطول الذي أدلى به الرئيس « السيسي « لرؤساء تحرير الصحف القومية الثلاثة فى الأسبوع الماضي أن يستخلص بعض عناصر التوجهات الثابتة للسلطة القائمة.
وسوف أتوقف أمام ما رأيت أنه عنصر أساسي فى هذه التوجهات وهو الكيفية التي تنظر بها السلطة القائمة لشعب مصر باعتباره مجموعة من الأفراد، يمكن أن يلتقط المسئول بعض مشكلاتهم ويشرع فى حلها بما له من سلطات، وهو ما فعله الرئيس « السيسي « منذ انتخابه وحتى الآن، وآخر النماذج فى هذا السياق هو الحاج «حمام» ومن قبله كانت فتاة العربة.
وأظن أن هذه الرؤية ترد بثباتها وتكرارها على التساؤل الدائر فى الحياة العامة حول أسباب موت السياسة، إذ يقر الجميع بهذا الموت رغم الضجيج الهائل المصاحب للإنجازات الحكومية، ولما تقوم به القوات المسلحة من جهود جبارة فى مجال تطوير البنية الأساسية المنهارة، وإصلاح ما ألحقته الإدارات السابقة من أذى بها عبر الفساد والاستبداد.
ويقر الجميع بمن فى ذلك السلطة القائمة بموت السياسة دون أن يتوقفوا أمام الأسباب الحقيقية لهذا الموت، بل ويرى الرئيس أن الأداء يتطور كل يوم فى عملية صناعة القرار، وأن هناك أطرا مؤسسية مثل المؤسسات السياسية والمجالس المتخصصة قائلا إنه يستمع إلى شخصيات وخبراء خارج تلك الأطر، ويجري لقاءات عديدة غير معلنة مع شخصيات تحمل خبرات متنوعة، كما أنه أشاد بالأحزاب قائلا إنه داعم لها جميعاً، ومطمئن إليها وواثق فيها، ويعرف الجميع أن هناك فارقا شاسعا بين هذه الكلمات الجميلة الصادقة والممارسة العملية ذلك أنه جرى إتخاذ كل القرارات المصيرية الأخيرة من تعويم الجنيه إلى التفاوض على قرض مع صندوق النقد الدولي فرض بمقتضاه الصندوق شروطا قاسية على الحكومة وكأننا بصدد صندوق دين جديد، وذلك دون أن تلتفت السلطة إلى ما قدمته الأحزاب من بدائل لهذه السياسات التي أصابت الطبقات الشعبية والوسطى فى مقتل، رغم أن البدائل التي قدمها حزب التجمع تحديدا لم تخرج عن النظام الرأسمالي أو تخاصم فكرة اقتصاد السوق، ولكنها توخت العدالة فى توزيع الاعباء، وهي تنظر إلى تطلعات ومطالب القوى الاجتماعية المختلفة بمن فيها قوى الرأسمالية المنتجة والصناعية على نحو خاص، ولم تنطلق هذه البدائل البسيطة والممكنة من رؤية للشعب كأفراد يمكن إستخدامهم فى إطار الدعاية لسياسات هي معادية لهم فى الصميم، وهم يحصدون ثمارها المرة كل يوم.
وحين تحدث الرئيس على سبيل المثال عن الضرائب أشار إلى اتجاه حكومي لزيادة الإعفاء دون أن يتطرق إلى ما طلبه حتى صندوق النقد الدولي من ضرورة فرض ضرائب تصاعدية، وما طرحته المعارضة من فرض ضريبة على أرباح البورصة. وتتوافق الرؤية الحكومية لدور الضرائب مع السياسة القائمة فعلا على تدليل « رجال الأعمال « دون أدنى استفادة من تجارب سابقة ثبت فيها عدم جدوى هذه السياسة.
وفى حين اصطدمت السلطة القائمة مع غالبية المهنيين فى مؤسساتهم وليس
كأفراد من صحفيين وأطباء وقضاة، ساخرة من الشعار الذي طرحته هي نفسها حول الحوار المجتمعي مع قضاياهم، واصل الرئيس دفاعه عن ضرورة إحترام دولة المؤسسات، واحترام الدستور، وبدا أن مثل هذه الضرورة تمشي على أرض الواقع حين تتوافق هذه المؤسسات مع سياسات الحكومة ولا تنتقدها، وأبرز مثال على ذلك هو الدور الذي يلعبه مجلس النواب كذراع للحكومة لا ممثل للمصريين كافة، وقد خاب أمل المواطنين حين أسفر أداء المجلس عن هذا الواقع المؤسف ولم يكن الأمر صدفة، وإنما جرى التخطيط له بإصرار السلطة على إصدارقانون انتخابات لمجلس النواب يضعف من الوجود الحزبي.
وقد أصبح موت السياسة حقيقة معلنة ومؤلمة تفسح الطريق مجدداً أمام الإخوان والسلفيين الذين ينشطون مجددا للاستفادة من الغضب الشعبي المتزايد، والقبضة الأمنية الباطشة، وتكميم أفواه بعض الإعلاميين الذين حذروا مبكرا من أن استبعاد القوى الاجتماعية وتهميش الأحزاب لابد أن يقودنا إلى هذه النتيجة المؤلمة، كما أنهم حذروا من تفكك حلف 30 يونيه، ومن الفراغ السياسي والثقافى الذي سينتجه تفكك هذا الحلف، وقد بات تفككه حقيقة ينكرها الرئيسي « السيسي « قائلا إن الحلف موجود وقائم سواء فى مواجهة خطر وقتي أو خطر ممتد.
ويدلنا الواقع العملي أنه لا أساس حقيقيا لهذا الاطمئنان إلى وجود الحلف والذي يعبر عنه الرئيس وهو الحلف الذي كان قد قدم فرصة ثمينة لمصر، وللسلطة التي تمخضت عن موجتين هائلتين من موجات الثورة، فرصة لبناء توافق وطني واسع تلهمه الأهداف العليا للثورة « عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية دولة مدنية « ولكنها الفرصة التي ذهبت مع الريح ومع موت السياسة ولم يعد المواطن بعد موجات الثورة يتعامل مع ما تقوله السلطة بل مع ما تفعله.

التعليقات متوقفه