إلغاء الأونروا.. مخطط إسرائيل لإلغاء الشاهد الحى على اقتلاع الشعب الفلسطينى من أرضه

35

أحسن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش صنعا بإصدار رد سريع على الدعوة التي أطلقها رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بحل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وضم اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، وهي دعوة خبيثة وخطيرة فى الوقت نفسه. وأود هنا أن أقرع جرس الإنذار للتنبيه المبكر لخطط إسرائيل الجهنمية فى إلغاء الشاهد الدولي الحيّ على مأساة اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه وأرضه ومدنه وقراه بغير حق، لإفساح المجال للغرباء الذي حملهم بلفور وهربرت صموئيل وحكومة التاج البريطاني إلى فلسطين، تحت ذريعة انحياز الرب لفئة معينة من البشر دون سواهم.
صفقة القرن
وعادة عندما تضع إسرائيل هدفا نصب عينيها لا يهدأ لها بال إلا بتحقيقه، بدعم من الدولة الأعظم. ويبدو أن تدمير الأونروا هو أحد هذه الأهداف حاليا، وقد تجد من يساعدها من أعضاء التحالف الذي تشكل أخيرا تحت ذريعة محاربة الإرهاب، ولكنه فى الحقيقة يهدف إلى تدمير القضية الفلسطينية، لإنجاز صفقة القرن التي بشرهم بها الرئيس الأمريكي المحاصر داخليا.
بيان الأمين العام جاء انسجاما مع القانون الدولي وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي فوضت إنشاء وكالة لمساعدة المشردين الفلسطينيين مؤقتا إلى أن يعودوا إلى أراضيهم وبلداتهم ومدنهم، حسب منطوق القرار الواضح 194 والمعتمد بتاريخ 11 ديسمبر 1948.
أنشئت وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فى 8 ديسمبر 1949 قبل إنشاء المفوضية التي أسست عام 1950 لإعادة ملايين اللاجئين الأوروبيين إلى ديارهم الأصلية بعد الحرب العالمية الثانية. وقد منحت المفوضية ثلاث سنوات لإكمال عملها. وها هي بعد 67 تضطلع بمسئوليات لأضخم عدد من اللاجئين بعد الحرب الثانية، يصل الآن إلى 65 مليون لاجئ ومشرد. وكان ممكن أن تنهي المفوضية عملها لولا انتشار الحروب والانتفاضات فى أوروبا وافريقيا وآسيا، حيث تم تمديد ولايتها وتوسيع نشاطها ليشمل كل أنحاء العالم.
تأهيل المهجرين
الأونروا أساسا هي جهاز عملياتي غير سياسي، هدفها رعاية اللاجئين الفلسطينيين فى المجالات الإنسانية، خاصة فى مجالي الإغاثة والتشغيل، كما هو واضح من اسمها. الإغاثة تتجسد فى تقديم مساعدات فورية عاجلة للمنكوبين المقتلعين من ديارهم، بتأمين المسكن أولا ثم الغذاء فالدواء. أما عن التشغيل فركزت الوكالة جهودها على التعليم الأساسي من الصف الأول وحتى التاسع، كما أنشأت عددا من معاهد التدريب لتعليم المهن الحرفية وتأهيل المعلمين، أي أن الوكالة أنشئت كإجراء مؤقت لتشغيل وتأهيل اللاجئين، كي يكسبوا أرزاقهم بمؤهلاتهم، ويخرجوا من دائرة العوز إلى دائرة الاكتفاء الذاتي، بانتظار عودتهم إلى وطنهم، كما نص على ذلك القرار المذكور. لقد منحت الوكالة كل فلسطيني لاجئ بطاقة تعريف وإقرار بأن حاملها من الذين اقتلعوا من ديارهم فى فلسطين التاريخية، ثم تحولت مع الزمن إلى شهادة إقرار بحق العودة ليس للاجئ فحسب، بل لأبنائه وأحفاده وذريتهم إلى أن يتم تحقيقه. وفى الوقت نفسه تم التأكيد عليه فى اللجنة الرابعة (السياسة الخاصة) والجمعية العامة أكثر من 24 مرة، وهو حق لا يموت بالتقادم، لأنه حق خاص يشمل الأفراد، وحق عام يشمل الوطن والشعب والموارد، كاستخدام الأراضي العامة والمياه والبحيرات والشواطئ والثروات الطبيعية. فقد يجادل أحد أن القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني (إن وجدت) وضمن مفاوضات متكافئة، قد تتنازل عن بعض الحق العام مقابل تنازلات من الطرف الآخر، لكن لا يحق لأي فرد أو قائد أو قيادة شرعية أو غير شرعية، أو برلمان، أو حزب سياسي، أن يتنازل عن الحق الخاص للأفراد حاضرين أو غائبين أمواتا أو أحياء.
الحل السياسي
الفرق الأساسي بين عمل الوكالة وعمل المفوضية إذن هو، أن عمل الوكالة مرتبط بحل سياسي للاجئين الفلسطينيين الذين اقتعلوا من أرضهم وحلت محلهم جماعات جعلت إمكانية عودتهم أصعب بكثير مما كانت عليه أيام الهجرة. أما بقية اللاجئين فى العالم فقد خرجوا مؤقتا من بلادهم، أثناء النزاعات، وبمجرد انتهاء الحرب يعودون إلى ديارهم ويبدأون حياة طبيعية أو شبه طبيعية، ولا أحد ينازعهم هذا الحق كما فعل الأفغان والعراقيون والإريتيريون والسودانيون والملايين غيرهم. فالخلط بين مهمة محددة للأونروا ومهمات عامة للمفوضية أمر فيه ريبة وهدفه تدمير الشاهد الحي على مأساة فلسطين عام 1948. لقد أنشئت الأونروا من قبل الدول نفسها التي أنشأت الكيان، بهدف امتصاص نقمة العرب والفلسطينيين، بحجة أنه إجراء مؤقت لغاية العودة. ومن بين النوايا المبيتة التي رسمت للشعب الفلسطيني أن ميزانية الأونروا تعتمد على التبرعات فقط، بعكس المفوضية التي تعتمد على ميزانية المحاصصة الجبرية، بالإضافة إلى التبرعات الطارئة. وعندما تكون الميزانية غير مستقرة ومتقلبة فمن الصعب بناء البرامج طويلة الأمد، فتلجأ الوكالة كثيرا إلى تقليص الخدمات أو إلغاء العديد من البرامج، وهو ما يسبب إضرابات متواصلة فى مخيمات اللجوء الستة والخمسين فى الدول الأساسية الأربع.
ظلت الأونروا تجسد هذا الإقرار الدولي بانتماء اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم فلسطين، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن تتم تسوية الصراع والتوصل إلى حل عادل ودائم وآمن وشامل، يتضمن حقهم فى العودة أو التعويض لمن يختار طواعية عدم العودة، كما ينص على ذلك البند رقم 11 من قرار حق العودة رقم 194.
إسرائيل من جهتها تعاملت مع الوكالة فى البداية على أنها تقدم خدمات للاجئين الذين أخرجوا من ديارهم، ولو لم تكن موجودة لتحملت إسرائيل المسئولية الأخلاقية والمادية عن مأساتهم. ومن جهة أخرى ظلت إسرائيل تعتقد أن الوكالة ستساهم فى مسألة التوطين، وبالتالي يختفى مصدر القلق الدائم لإسرائيل. كما أن تأهيل الفلسطينيين وسعيهم للعمل بعيدا عن دول الطوق لبناء حياة جديدة مستقرة، يساهم أيضا فى تخفيف الضغط وتأجيل تمرد اللاجئين على ظروفهم المعيشية فى حالة إنسداد أفق الأمل.
تعاطف موظفى الأونروا
إلا أن السياسة الإسرائيلية بدأت تتغير مع الانتفاضة الأولى، وقيام الأونروا بدور أكبر من السابق من نوع عمليات الإيواء والتشغيل وتقديم القروض الصغيرة والتعويضات لأصحاب البيوت المهدومة، خاصة فى قطاع غزة. ومن الطبيعي أن يكون هناك تعاطف بين موظفى الأونروا المحليين والدوليين مع مأساة أبناء المخيمات، بسبب ممارسات الاحتلال. وقد شوهد بيتر هانسن، المفوض العام للأونروا يبكي عندما زار بيت الشهيد الطفل محمد الدرة فى نهاية أكتوبر 2000. فمورس الضغط على الأمين العام الأسبق كوفى عنان وأنهى تعاقده. ثم عينت الأمريكية كارن أبو زيد وأبدت التعاطف نفسه مع معاناة سكان قطاع غزة، وحمّلت إسرائيل مسئولية خرق الهدنة عام 2008 التي أبرمتها مصر بين المقاومة وإسرائيل. ثم تم تعيين فيليب غراندي والآن بيير كرهنبول، وكلهم متعاطفون مع مأساة اللاجئين.
تلفيق إسرائيلي
إسرائيل من جهتها بعد الانسحاب من غزة عام 2005 وضعت نصب عينيها إسقاط الأونروا عن طريق تلفيق التهم بنقل الصواريخ فى سياراتها، ومراقبة كل شخص أو متعاون أو سائق أو معلم يعمل مع الوكالة، وتطلب طرد من يبدي أي تعاطف مع الشعب الفلسطيني. كما قامت بمهاجمة مدارس الأونروا فى الحربين المدمرتين 2008/2009 (الرصاص المصبوب) و2014 (الجرف الصامد). وقد أدانت الأمم المتحدة هذه الهجمات، التي قتل بسببها عشرات المدنيين، كما قتل 13 موظفا للأونروا فى الحرب الأخيرة. وقد قامت الأمم المتحدة بالتحقيق فى تلك الهجمات وطالبت إسرائيل بدفع تعويضات.
من جهة أخرى اعترفت الوكالة وأدانت استخدام الميلشيات المسلحة لمرافق الوكالة لأغراض عسكرية أو حربية، كان آخرها اكتشاف نفق مهجور تحت إحدى المدارس فى العاشر من هذا الشهر. وهي الحادثة التي استغلها نتنياهو للدعوة لحل الوكالة.
ستبقى إسرائيل تحاول أن تقنع المجتمع الدولي بحل الوكالة، لكن لا نتوقع أن يشتري أحد هذه البضاعة الكاسدة إلا مجموعة صغيرة من جزر غير معروفة فى المحيط الهادي، مثل تونغا وجزر مارشال وبالاو ومايكرونيزيا، وقد ينضم إليهم الآن عدد من دول تنطق بالعربية. لكن ثقتنا عميقة فى دول أمريكا اللاتينية والافريقية وبعض الدول الآسيوية والإسلامية، وما تبقى من دول عربية قليلة، ما زالت قابضة على الجمر فى الحفاظ على مؤسسة مهمة تعتبر شاهدا حيا على جريمة العصر.
٭ محاضر فى مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

عبد الحميد صيام

التعليقات متوقفه