صفحة من تاريخ مصر (1): أحمد لطفي السيد.. لغز ديمقراطية الأعيان

290

نجح محمد علي في بناء قاعدة انطلاق لمصر نحو ثلاثة أهداف هي: تحديث- تصنيع- تغريب (أي استفادة من الحضارة الغربية). ولن نطيل في هذه الامر فقط سنورد ارقاما ذات دلالة. في عام 1837 كان في مصر 29 مصنعا تضم 30.000 عامل (راشد البراوي وعليش “التطور الاقتصادي في العصر الحديث- ط3- ص63”). وفي عام 1832 كان في مصر مدرسة القصر العيني وبها  وحدها 1220 تلميذا (د. احمد عزت عبد الكريم – تاريخ التعليم في مصر- ج2- ص17). وفي عام 1839 كان تعداد الجيش المصري 267.616 جندي وبحار. (د. علي الحديدي- عبد الله النديم- ص15). وتأسست ترسانة بحرية ضخمة لتبني اسطولا حديثا وجمع لها محمد علي 8000 عامل من نجباء ابناء الفلاحين (المرجع السابق ص14) وعبر مؤامرات استعمارية مدعومة من الخليفة العثماني طويت صفحة التقدم والحداثة.

وعندما أتي الاحتلال البريطاني، كان هناك نشاط مالي واقتصادي واسع، ولكن في ايدي الاجانب ويبرر ديفيد لاندز ذلك قائلا “المجتمع المصري لا يحتوي مقاولين ومستثمرين ومهندسين قادرين علي تحقيق ثورة اقتصادية وكان الاوربيون وحدهم يمتلكون هذه القدرات” (ديفيد لاندز – بنوك وباشوات- ترجمة عبدالعظيم انيس – ص87) ولكن ذلك لم يمنع من وجود مجموعة من التجار المحليين الاغنياء جدا. وتقرأ لعلي باشا مبارك في (الخطط الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة- الطبعة الاولي 1305 هـ ج 17- ص4) عن الحاج محمود محرم “الخواجة المعظم والملاذ المفخم تربي في العز والرفاهية وكان اذا امسك التراب صار ذهبا فشاع خبره بالديار المصرية والحجازية والشامية والرومية” ولكن هذا النموذج وامثاله لم يكن ليطمح ولا يعرف كيف يتحول التاجر إلي برجوازي وإنما كان يتحول بتراكمات ارباحه الوفيرة إلي تملك الاراضي الزراعية خاصة بعد شبكة الري والصرف التي نفذها كرومر وزيادة ريع الاراضي الزراعية، واسباب ذلك عديدة اولها معارضة كرومر الذي حذر الاغنياء من اضاعة اموالهم في تأسيس شركات مساهمة. كما كانت هناك محاذير دينية شجعها شيوخ الازهر الرجعيين مثل تحريم التعامل المصرفي وشركات التأمين، ورغم فتاوي الشيخ محمد عبده الليبرالية ظلت غيامات التحريم تقف حاجزا يمنع التقدم الرأسمالي. وكانت الوظائف المهمة في اغلبها محجوزة للاجانب. ويقول مراسل التيمس اللندنية “ان معظم الموظفين الكبار اصبحوا من الاجانب، وكانت الدول الاجنبية تتنافس في حشر موظفيها وبلغ عددهم في بدايات الاحتلال 1355 مجموع مرتباتهم 379.056 جنيه سنويًا. ثم جاء جيل جديد من شباب الاعيان الي دواوين الحكومة ليفرض نفسه وهو جيل احمد لطفي السيد ورفاقه. بل إن بعض المتعلمين من ابناء كبار الملاك العقاريين قد نجح في تحقيق ما يمكن تسميته بالاقطاع الوظيفي مثل قليني فهمي باشا وكان يدير عدة مصالح في وقت واحد منها مصلحة الدخوليات. ومصالح الملح والقطرون ومصايد الاسماك، ومصلحة الملاحة من وابورات وذهبيات ومراكب ومصلحة الضربخانة ودمغة المصوغات ولجنة تعيين الموظفين وتأديبهم” (زكي فهمي- صفوة العصر في سيرة ورسوم مشاهير مصر-  306) في ظل هذه الصورة اتجه عديد من ابناء اعيان الريف مثل احمد لطفي السيد- محمد حسين هيكل- عزيز ميرهم للدراسة في الخارج وعادوا إلي مصر ليقودوا حملة تنوير وتغريب عن طريق ترجمة امهات الكتب الاوربية وسط مناخ كان يغلي ضد الاحتلال إلي درجة أن كرومر كتب في أحد تقاريره أن المصريين يذوبون شوقا إلي الثورة. لكن هؤلاء كانوا ضد الثورة، ومع مجرد التنوير بمقولة أن التسرع قد يجهض التقدم.

وفي مذكرات محمد فريد، أن يوم 23 فبراير 1893 نقرأ “اشيع أن جماعة من ذوات مصر وفي مقدمتهم البرنس حسين باشا عم الخديوي ووحيد باشا يكن وعمر باشا مصطفي شرعوا في انشاء شركة زراعية يكون رأسمالها 250 الف جنيه لشراء اراض واستغلالها وجعلها شركة مساهمة كل سهم بعشرة جنيهات وتم الاكتتاب بمبلغ 200.000 جنيه (مجلة الهلال مقال لصبري ابوالمجد- ديسمبر 1994) وينزعج كرومر فيكتب محذرا في تقريره  عن احوال مصر في عام 1901″ وفيما يخص اصحاب الاسهم من المصريين فإني اغتنم هذه الفرصة لتكرار التحذير من أن الذين يضيعون اموالهم في الشركات يحسن بهم أن يتبصروا” (احمد رشدي صالح – كرومر في مصر- ص 95).

ومع نمو ثروات اصحاب الملكيات العقارية بدأوا يلعبون دورا هاما في انتخابات عام 1913 للجمعية العمومية حصل كبار الملاك علي 49 مقعدا أي 75% من مقاعد الجمعية العمومية. ومع اندفاع حماسهم في قضية مد امتياز قناة السويس كتب المعتمد البريطاني جورست “أن المظاهر التي جرت ضد الانجليز علي سبيل الجهالة والحماقة بلغت شدتها برفض مشروع مد امتياز قناة السويس بلا مناقشة حقيقية” (جمال احمد- الاصول الثقافية للوطنية المصري- بالطبعة الانجليزية- ص12) ويمضي جورست “أن الجمعية تتخذ ما نالته من علو الشأن سلاحا ضد من منحها ذلك”.

ويتراجع الآباء الاعيان ومعهم ابناؤهم ويكتب أحمد لطفي السيد المفكر النظري لهذه الطبقة “ما من علاج سريع لما تعانيه مصر” واعلن صراحة معارضته للحزب الوطني قائلا “أن هؤلاء السياسيين الذين يحرضون الجماهير علي التحرك السريع يقودونها إلي الفشل الذريع فليس من الممكن مقاومة الاحتلال ولا مقاومة الخديوي” (البرت حوراني- الفكر العربي في العصر الليبرالي 1908- 1939 – ص214- الطبعة الانجليزية). وفي رثاء لطفي السيد (لصديقه الحميم فتحي زغلول قاضي محكمة دنشواي) قال في مدحه “كان فتحي يؤمن بالتقدم عن طريق التطور، وكان يكره الثورة حتي ولو كانت مجرد فكرة”  (زكي فهمي- صفوة العصر- ص 136) وعندما اضرب عمال الترام واوقفوا العمل، ثم قامت الشركة بتسيير بعض العربات تضامنت الجماهير مع العمال واحرقت عربات الترام، وبينما كانت جريدة اللواء تؤيد العمال وتحرض الجماهير علي مساندتهم . هاجمتهم صحيفة “الجريدة” لسان حال حزب الامة الذي ترأس تحريرها احمد لطفي السيد ووصفتهم “بأنهم كالقرده الذين يقلدون العمال الاجانب دون وعي، وحرضت الحكومة ضدهم”. وانبرت اللواء لتصب غضبها علي الاعيان وحزبهم وجريدتهم فتقول، “ان سياسة الجريدة تدلنا علي أنها اشد الجرائد تعلقا بالاحتلال وحسبنا هجومها علي من استنكروا احتفالات الوداع لكرومر اعدي اعداء المصريين والطاعن علي الاسلام والمسلمين” (اللواء – 17-11-1907) اما جريدة الحزب “العلم” فقد شنت علي احمد لطفي السيد حملة صاعقة قائله ” اي عدو بلاده، مكانك مكانك أيها الجبان فمالك بميادين تميتك صورتها وتصعقك ذكراها، فخير لك أن تحفر الارض بأظافرك وأن تتردي فيها، ثم ارطم رأسك بالحجار حتي يخرج من دماغك ذلك المخ الذي كان سبب شقائك واصل بلائك” (العلم – 31-10-1911).

وهكذا وجد الاحتلال وضعه في مصر بين تشدد الحزب الوطني ومعاداته التامة له. وبين شطط مؤيديه في حزب الأمة واندفاعهم في خسران الجماهير.. فبحثوا عن زعيم جديد يكون بين بين اي ليس ضد الاحتلال بشراسة وليس معه بسذاجة وكان اختيار سعد زغلول .

ونواصل.

 

 

 

 

التعليقات متوقفه