قضية للمناقشة: تعليم لمن يدفع!

50

 

ينص الدستور المصري لعام 2014 في مادته التاسعة عشرة على أن ” التعليم حق لكل مواطن هدفه بناء الشخصية المصرية والحفاظ على الهوية الوطنية ، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير وتنمية المواهب ، وتشجيع الابتكار ، وترسيخ القيم الحضارية والروحية ، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز ، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه في مناهج التعليم ووسائله ، وتوفيره وفقا لمعايير الجودة العالمية .. ” .

ورغم هذا النص القوي الذي يلخص ببراعة محتوى القيم العليا التي انطلق منها الدستور ، والزم بها كلا من المجتمع والدولة ، فإن مسافة شاسعة نشأت بين هذه القيم و الواقع الفعلي لا للتعليم وحده وإنما لكل جوانب حياتنا .

وتثور هذه الأيام ، وعلى نطاق واسع قضية الجامعات الخاصة والجامعات الأهلية التي تحولت غالبيتها إلى ” بوتيكات” أو مشروعات استثمارية تدر أرباحاً هائلة لأصحابها ، وهناك شكوك جدية حول جودة التعليم الذي تقدمه أو التزامها بمعايير الجودة العالمية وفقا للدستور ، فضلا عن مخالفات بلا حصر .

وتحت عنوان ” بيع الجامعات الخاصة ، وتملك الشركات والبنوك والأجانب .. هل ستستمر الظاهرة .. وتنفيذ فكرة إنشاء فروع أجنبية ؟ سؤال يطرحه المجتمع الجامعي.

تحت هذا العنوان أثار الزميل ” محمد حبيب ” المتخصص في قضايا التعليم في ” الأهرام ” أخطر الأسئلة حول مسار ومستقبل وآليات عمل الجامعات الخاصة منتظراً الإجابة من وزير التعليم العالي ، وسأل الزميل الدكتور ” عز الدين أبو ستيت ” الأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات الخاصة والأهلية : هل سنسمح لعرب أو أجانب أو غيرهم بشراء جامعات خاصة ، فأجاب أنه ليس هناك ما يمنع حتى الآن ما دامت الحصة الأكبر لمصريين ، 51% مصريون ، و49% من غير المصريين.

ورد الزميل قائلا ” ولكن هذا في الشركات والبنوك والمشروعات التجارية التي تهدف إلى الربح ، وليس في الجامعات الخاصة التي لا تهدف للربح ” .

وانكشف في هذا الرد المنطق التجاري الذي يقف وراء إنشاء الجامعات الخاصة وحتى الأهلية ، وإذ ينسى أصحاب هذه المشروعات الجديدة التي تعمل وفقا لاقتصاد السوق وحريته المعركة المجيدة والجهود التطوعية الجبارة التي بذلها مؤسسو الجامعة المصرية الأولى لدى نشأتها في السنوات الأولى من القرن العشرين ، وكانوا جماعة من المثقفين ، وكبار الملاك وعلى رأس هؤلاء الأميرة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل ، وكانت نهضة مصر هي الهدف الرئيسي لكل هؤلاء وليس تنمية استثماراتهم ، كما يفعل الآن هؤلاء الذين يستثمرون في التعليم باعتباره مجالا مربحا ومضمونا ، وليس بينهم مثقف كبير واحد كما كان الحال لدى إنشاء جامعة القاهرة ، حين ضمت قائمة المنشئين كلا من طه حسين ، ولطفي السيد ، وقاسم أمين وعشرات آخرين كافحوا لبناء هذا الصرح العظيم جامعة القاهرة ، التي واصلت رسالتها العلمية لتخريج أجيال وأجيال من العلماء والباحثين والمثقفين الذين اعترفت المؤسسات العلمية العالمية بكفاءاتهم ومعارفهم إلى وقت قريب .

وفي حمى سياسة ما سمى بالانفتاح الاقتصادي ، وفلسفتها المعادية لدور الدولة في الانفاق الاجتماعي تدهورت مؤسسات التعليم العام ، وانفجرت ظاهرة الجامعات الخاصة التي تعيد إنتاج سياسات الليبرالية الجديدة في ميدان التعليم ، وأصبح الشعار هو من يريد أن يتعلم فليدفع ، وقامت هذه الجامعات الخاصة باستنزاف الجامعات العامة ، ولكنها لم تقدم في مقابل ذلك تعليما يستجيب لإشتراطات الدستور، أو أسس الجودة العالمية ، ويشكو نقيب المهندسين ” طارق النبراوي ” من أن التعليم الهندسي في مصر يمر منذ خمسة عشر عاما بمشكلة أساسية تتمثل في ظهور التعليم الهندسي الخاص كمحاولة للاستثمار في مجال التعليم حيث ضعف مستوى الخريجين والغالبية من خريجي الجامعات الخاصة ، بينما يزداد أعداد الطلبة في الجامعات العامة مع قلة الإمكانات .

وهنا نعود إلى الدستور الذي نص على التزام الدولة بتخصيص نسبة من الانفاق الحكومي للتعليم الجامعي لا تقل عن 2% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية ولكن الحكومة لم تلتزم لا بهذه النسبة ، ولا بالنسبة المخصصة للبحث العلمي التي حددها الدستور بـ 1% من الناتج القومي الإجمالي .

ويتنافى هذا التقصير الحكومي في الالتزام بالدستور الذي طال أيضا الانفاق على الصحة مع الشعارات المرفوعة والخطب الرنانة حول التنمية البشرية كأولوية ، والاعتذار عن الالتزام ببنود الدستور بسبب شح الموارد ، بينما يجري الانفاق ببذخ وتعجل على مشروعات كان يمكن تأجيلها مثل الطرق والمدن الجديدة والقنوات التليفزيونية وهو ما نصح به حتى الاقتصاديون الحكوميون الذين طالب بعضهم باقتصاد حرب ، ومثل هذا الاقتصاد يقوم على التقشف الحكومي أساسا ، وليس تقشف الطبقات الشعبية والوسطى التي تئن تحت وطأة ارتفاع الأسعار وفساد المؤسسات واستعلاء الحكومة والسلطة كلها ، وأن شاءت هذه الطبقات أن تعلم أبناءها فلتدفع ، وياليته تعليم حقيقي .

 

التعليقات متوقفه