الموقف الفعلي للإخوان من اتفاقية الجلاء

340

عندما انطلقت رصاصات محمود عبد اللطيف عضو التنظيم السري للإخوان المسلمين باتجاه جمال عبد الناصر فى 26 أكتوبر 1954 فى ميدان المنشية بالإسكندرية التي أخطأته وأصابت مرغني حمزة الوزير السوداني والمحامي أحمد بدر اللذين كانا يقفان بجواره.. كان الدافع لتلك الجريمة هو توقيع عبد الناصر اتفاقية الجلاء فى 19 أكتوبر 54 لأنها سمحت للقوات الإنجليزية بالعودة إلى قناة السويس فى حالة وقوع هجوم مسلح على أي بلد يكون طرفا فى اتفاقية الدفاع المشترك العربية أو على تركيا. ومع أن التحقيقات أثناء محكمة الثورة التي شكلت بعد الواقعة مباشرة فى أول نوفمبر 54 مع أعضاء التنظيم السري منهم يوسف طلعت أظهرت أن الخطة كانت معدة من قبل، و أنهم انتظروا الفرصة المناسبة لتنفيذها ووجدوها مع توقيع المعاهدة باعتبار أن شعبية مجلس قيادة الثورة ستكون أقل ما تكون بعدها. و قد أظهر الكاتب وحيد حامد فى مسلسل الجماعة مدى تورط الإخوان المسلمين فى تلك الواقعة بدءاً من المرشد حتى منفذها، و لم تكن تمثيلية قام بتنفيذها ليلقى حكم الإعدام بعدها.
الغريب أنه كانت اتصالات سرية ما بين أعضاء من الجماعة و المرشد حسن الهضيبي نفسه وبين مستر ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية فى مايو 53 وقد اعترض عبد الناصر عليها بشدة فبدا أنهم توقفوا بعدها. لكنهم عادوا إليها من جديد مع بداية عام 1954 فى العاشر من يناير أي قبل قرار حل الجماعة بأربعة أيام عندما زار حسن عشماوي مستر كريزويل الوزير المفوض الربيطاني مرتين فى نفس اليوم. لا يعرف أحد ماذا دار فى تلك الاجتماعات السرية لكن صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة يذكر فى إحدى مقالاته بمجلة التحرير نشرها فيما بعد فى كتابه “ الجلاء “ أنه فى 25 إبريل1953 قبيل بدء المفاوضات الرسمية بيومين اتصل فريق من رجال الإخوان طلبوا مقابلة أعضاء مجلس قيادة الثورة.
( فى يوم 25 إبريل اجتمعنا جمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر و كمال الدين حسين و أنا مع المرشد العام و كان معه حسن عشماوي و صالح أبو رقيق و منير الدلة ربما فرد أو فردين لا أذكرهما تماما فتح موضوع المفاوضات و أوضح الرئيس جمال موقف الجانب المصري فى صراحة و وضوح.. كما أوضح الغرضين اللذين يجب الوصول إليهما إذا ما قدر للمفاوضات النجاح و هما :
•جلاء كل عسكري عن أرض الوطن.
•التحلل من قيد أو تحالف أو أي دفاع مشترك.
هنا أفاض الرئيس جمال فى الكلام عن هاتين النقطتين قائلا بصراحة مدة التنفيذ ليست فى المرتبة الأولى فى نظره.. لكن الأهم هو الوصول بأي شكل إلى تحقيق هاتين النقطتين لأن بهما تصبح لمصر السيادة الفعلية على أراضيها كاملة، و يصبح لمصر استقلالها الكامل غير المنقوص.
من المعروف أن بريطانيا لم تسلم قط فى أي مفاوضة سابقة بالجلاء الكامل و لا بكسر قيد التحالف أو الدفاع المشترك إلا فى مفاوضات “صدقي – بيفن” فقد سلمت بالجلاء التام خلال ثلاث سنوات لكن فى مقابل الدفاع مشترك لمدة 21 عاما وتسليم مطلق لانجلترا فى السودان.
ظل المرشد ينصت طويلا ثم بدأ يتكلم عن أعداء مصر، و أنه يجب علينا أن نحدد من هم أعداء مصر و درجة خطورتهم. هنا تساءل كمال الدين حسين عن رأي فضيلته فى سؤاله هذا، و رجاه إن كان بحث هذا الموضوع أن يدلي إلينا بالإجابة عليه. بعد صمت ليس بالقليل قال فى تؤدة :
-إن أعداء البلاد ثلاثة، الشيوعيون و الصهيونيون – يقصد إسرائيل – و الإنجليز. فالصهيونيون رغم خطورتهم على كيان العرب و اجتثاثهم لأهالي فلسطين.. إلا أن خطرهم يمكن أن يقف عند حده لو حصلنا على السلاح. أما الشيوعية فهي الخطر الأعظم على كيان الإسلام لأنها تبيح كل شيء.
و تكلم عن “ العرض “ قائلاً :
– ليس هناك أسرة فى الدول الشيوعية، لأن الزوجة ملك الجميع، و نحن لا نقبل أن نصل هذا الحد .. و هذا خطر يهدد كيان ديننا الحنيف فإذا ما كان الإنجليز عقلاء و سلموا لنا بالجلاء الكامل و الحرية الكاملة فماذا يمنع أن نعقد معهم تحالفا ضد الشيوعية، و يبدو أنهم فى اتصالاتهم السرية وصلوا إلى تلك النقاط، و يسلحونا وبذلك نأمن خطر إسرائيل كما يمكننا أن نتفاوض معهم على أن نستعمل جزءا من أسلحة القاعدة التي سيتركونها فى القناة.. لقد سمعت أن فى هذه القاعدة أسلحة يبلغ ثمنها 500 مليون جنيه.
رد عليه الرئيس عبد الناصر قائلا: يجب أن لا نسلم لهم بهذا الرأي – التحالف ضد الشيوعية – فهذا هو كل ما يرمون إليه.. لو سلمنا لهم بهذا المبدأ لانتهينا من المفاوضات منذ الشهر الثاني بعد قيام الثورة. نحن برفضنا مبدأ المحالفة نؤمن ايمانا عميقا بأن المحالفة لا يمكن أن ننتفع بها إلا إذا كنا ندا فى القوة لبريطانيا. لقد علمتنا التجارب أن التحالف ما بين الضعيف و القوي مثل التحالف بين القط و الفأر. و لسنا بعيدين عما حدث عقب محالفة 1936 فلقد نصت على أنها بين سيدين متساويين لكن عوملنا من جانب بريطانيا منذ اليوم الأول لتوقيع المعاهدة معاملة المستعمرات البريطانية.. لا يمكن أن نكرر هذه المهزلة.
حقيقة أشاركك الرأي بأن الشيوعية خطر يهدد البلاد و الدين لكن خطرها بعيد غير ملموس أو على الأقل لم يقع بعد فهو فى حيز الاحتمال.. أما خطر السيطرة البريطانية فهو قائم فعلا و ماثل فى الأذهان و أمام الأعين منذ أكثر من 70 عاما. على كل حال إذا كان هذا رأيكم فليس من الصالح أن تظهروه للإنجليز.،. إذ من الصالح كمفاوض أن تطلبوا أكثر مما أطالب به.
انتهت الجلسة و ظل هذا هو رأي الإخوان ).
قد يقول قارئ ما أدرانا أن ما ذكره صلاح سالم فى كتابه صحيحا وليس افتراءً على الإخوان المسلمين ؟. لا نملك فى معرفة صحة ما يقال إلا أن نقيسه مع مواقفهم السابقة و اللاحقة. فى سنة 1951 عقب إلغاء مصطفى النحاس معاهدة 36 بأسبوع أعلن المستشار حسن الهضيبي لمجلة الجمهور المصري فى الخامس عشر من أكتوبر ( هل تظن أن أعمال العنف تخرج الإنجليز من البلاد ؟. إن واجب الحكومة اليوم هو أن تفعل ما يفعله الإخوان المسلمون من تربية الشعب و اعداده فذلك الطريق لإخراج الإنجليز ). ثم خطب فى عشرة ألاف من شباب الاخوان “ اذهبوا و اعكفوا على تلاوة القرآن “.!
أقوال الهضيبي المفجعة جعلت الكاتب الكبير خالد محمد خالد يرد على أقوال المرشد فى جريدة روزا اليوسف بمقال عنوانه “ ابشر بطول سلامة يا جورج “ يقصد جورج الخامس ملك انجلترا وقتها ( الاخوان المسلمون كانوا أملا من آمالنا لم يتحركوا و لم يقذفوا فى سبيل الوطن بحجر أو طوبة. أفى مثل هذه الأيام يدعي الشباب للعكوف على تلاوة القرآن الكريم. و مرشد الاخوان يعلم أو لا يعلم أن رسول الله وخيار أصحابه معه قد تركوا صلاة الظهر و صلاة العصر من أجل معركة ). و قد أعترف القيادي الإخواني محمد فرغلي أثناء محكمة الثورة بأن الذي أشترك فى معركة القنال عدد بسيط من الإخوان.
لاحقا فى الثمانينيات ألم يحشد الإخوان المسلمون المقاتلين للسفر إلى افغانستان و تدعيمهم ماليا لمحاربة الاتحاد السوفيتي الشيوعي بعد أن استدعت قواته إلى هناك حكومة كابول برئاسة حفظ الله أمين عام 79 عقب وصول حزب الشعب الديمقراطي للسلطة بانقلاب عام 78 على حكم محمد داوود الفاسد و ذلك لمساعدتها ضد التدخلات العسكرية الأجنبية القادمة من باكستان. مرة أخرى يلعبون لعبة اعادة ترتيب اللأولويات ليصبح الاتحاد السوفيتي هو العدو برغم أنه الداعم الوحيد للعرب فى حربها ضد إسرائيل و المساعد لدولهم فى التنمية وتتراجع أمريكا التي تدعم إسرائيل.
هكذا يتكرر مواقف الإخوان المسلمين على مدار تاريخهم بل تيار الإسلام السياسي بأكمله يجاهرون بمبادئ، و يتاجرون بأخرى بعيدة عنها، و يفعلون أفعالاً مناقضة تماما.. يقفون مع مجلس قيادة الثورة و يدفعونه إلى إنهاء التعدد الحزبى، ثم يهاجمون الثورة فيما بعد لأنها معادية للديمقراطية. انظروا فى مصر رفضوا الاعتراف بانتفاضة الشعب المصري فى 30 يونيو ضدهم ووقفة الجيش المصري حاميا لمطالبه باعتبارها انقلابا ضد رئيس منتخب.. بينما فى غزة يرفضون مرارا دعوة محمود عباس بإجراء انتخابات تشريعية جديدة خوفا من هزيمة حماس، و فى ليبيا رفضوا نتائج الانتخابات البرلمانية فى يوليو 2014 التي منوا بها بهزيمة ساحقة فحصدوا 23 مقعدا فقط من أصل 200 فحاصروا البرلمان الليبي فى طرابلس و منعوا انعقاد جلساته، بل و استولت ميلشياتهم على العاصمة، و جعلوا الحكومة المنتخبة محاصرة فى بنغازي و يطالب طباليهم بحل سياسي لتلك المعضلة بمشاركتهم فى السلطة و هم خاسرون ؟.

د. هشام قاسم

التعليقات متوقفه