صفحة من تاريخ مصر (5): احمد لطفى السيد.. لغز ديمقراطية الأعيان

360

 

 

ويخصص احمد لطفي السيد الفصل السابع من مذكراته لإبداء رأيه في عدد من شخصيات عصره فيقول..

مصطفي كامل باشا : لا أريد أن أطيل في مصطفي كامل لكن كان شعاره الوطنية, ووسيلته الوطنية, وغرضه الوطنية, وكلماته الوطنية , وكتابته الوطنية وحياته الوطنية حتي لبسها ولبسته فصار بينهمها تلازم فإذا ذكرته بخير فإنما تمتدح الوطنية وإذا قلت الوطنية فإن أول ما يتمثل في خيالك مصطفي كامل, كأنما هو والوطنية شيء واحد .. ولقد دعوت في اليوم التالي لوفاته علي صفحات الجريدة إلي اقامة تمثال له يشهد بالاعتداد بفضله وتخليدا لذكره واعترافا بفضله, وشاعت هذه الفكرة بين جميع الطبقات, وفتحنا الاكتتاب علي صفحات الجريدة وتكفلنا بالقيام بهذا العمل ولو أننا لم نكن من حزبه السياسي لأن مصطفي كان مصريا لجميع المصريين ” (59) واذا جاز لي أن أعلق علي هذا الموقف أقول إنه أحد علامات الفكر الليبرالي الذي يتعامل مع الخصوم السياسيين بديمقراطية, فمصطفي كامل هاجم حزب الأمة والجريدة واحمد لطفي السيد هجوما عنيفا وحتي الشعار الذي لم يزل يتألق علي قاعدة تمثاله يعبر عن رفضه لهؤلاء الذين اسهموا في إقامة تمثاله ولعلهم تقبلوا ذلك برضاء ديمقراطي وليبرالي والعبارة التي يقرأها ملايين المصريين باستمرار علي قاعدة تمثاله تقول ” أن من يتسامح في حقوق بلاده ولو مرة واحدة يبقي ابد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان ” .. وكثير جدا .. ما تسامح حزب الامة ورجاله في حقوق البلاد 0

قاسم أمين بك: قاسم امين من أصل كردي, وجده أمير من أمراء الأكراد,  وأخذ ابنه رهينة في الاستانة لخلاف بين الاكراد والدولة العثمانية وكان الرهينة هو أمين بك والد قاسم أمين فجيء به إلي مصر في زمن اسماعيل باشا وانضم للجيش المصري حتي رقي إلي رتبة أمير آلاي, وتزوج بكريمة احمد بك خطاب وكان قاسم اكبر الأبناء0 وامتاز في المدارس بحدة الذكاء فلما أتم دراسته ارسل في بعثة إلي فرنسا وأتم دراسة الحقوق وفي 1858 عين وكيلاً للنائب العام في محكمة مصر المختلطة وتدرج حتي أصبح مستشارًا في الاستئناف, وأدرك قاسم أن المرأة هي أساس العائلة وسعي ليفك أسر المرأة التي اوقعوها فيه باسم الدين وما هو من الدين في شيء فكتب كتاب ” تحرير المرأة ” ثم ” المرأة الجديدة ” ولم يخشي منتقدا ولا لائما0 وعندما كتب الدوق داركو كتابا هجا فيه المصريين وهاجم دينهم, فرد عليه بكتاب بالفرنسية دافع فيه عن الإسلام والمسلمين” 0

احمد عرابي باشا: في عام 1911 توفي احمد عرابي قائد الثورة العرابية (1882) وقد حاول أن يقود مصر إلي السعادة لكنه تعجل ولم يتدبر وإنقاد لشهواته أو شهوات زملائه فوقعت مصر في التعاسة0 ومن حسناته قبل الثورة الدستور الذي من صنع يديه ومن آثار جرأته ولعرابي سيئات منها خروجه ضد خديوي هادئ, في غير مصلحة الأمة . لا أنكر أن عرابي أساء إلي وطنه وأمته ولكن اسارع فأقول إنه أساء من حيث أراد أن يحسن وأضر من حيث أراد أن ينفع فله ثواب النية وعليه مسئولية النتيجة . وعرابي لا يصح أن يتحمل وحده مسئولية العوامل التي أتت بالثورة وأدت إلي النتيجة السوداء وإنما هناك البرلمان الذي أيده  والأعيان  ورجال الدين وكل من أيدوه.

وكعادته فإن أحمد لطفي السيد يزج بخواطره خلال سرد قد لا يكون متعلقا بها0 ففي الفصل الثامن من مذكراته, عنوانه رحلتي إلي اوربا وإلي المدينة المنورة . نقرأ في السطر الأول “في السفر ما يملأ العقل راحة والنفس رضا ومفرج عن القلب”  ثم “وما أكثر هموم المصري, وكيف يرتاح والنظام الاجتماعي مختل والأمة تشقي بأمراضها الثلاثة الفقر والجهل والمرض, ومصر مازالت محتلة بالأجنبي, والحكم غير مستقر “ثم يقول ” في السفر ما يميت القلب إذا ما قارن المصري بين ما كان يراه من فشل الأمة في حقها وما يراه في غير مصر من ديمقراطية صحيحة كاملة, فيها الفرد يساوي الفرد حقيقة وليس لأحد من السلطة إلا ما أرادت الأمة أن تعطيه له (65).

وفيما يتحدث أحمد لطفي السيد عن رحلته يقول “ونشبت الحرب في ليبيا بين تركيا وايطاليا واغارت ايطاليا علي طرابلس فظنت أن هذه هي الفرصة  لتحقيق ما كنت ادعو إليه وهو أن مصر يجب أن تكون للمصريين وأخذت أنبه علي استحياء إلي واجب مصر في هذه الحرب وهي أن تكون علي الحياد, وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها مضره, ولا تستطيع أن تنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلا بتوحدنا والاعتماد علي انفسنا ” (ص 79) إنها إحدي حسنات أحمد لطفي السيد ورهطه فهم لم يخدعوا ابدا بوهم الخلافة بل اعتبروها عبئًا علي الاسلام والمسلمين .

ومرة أخري، يواصل أحمد لطفي السيد دعوته لفك ارتباط مصر بالدولة العثمانية ونقرأ في المذكرات ” في عام 1912 ذهبت إلي حسين رشدي باشا وزير الحقانية مقترحا أن نبدل بالعلم العثماني علما مصريا فرأي أن هذا العمل سابق لأوانه , ثم رجعت مرة أخري إلي رشدي باشا لأطلب اليه أن تعلن مصر استقلالها عن الدولة العثمانية وأن تنصب الخديوي ملكا ويعترف لها الانجليز بهذا الاستقلال ورجوته باسم حزب الأمة أن يعرض الأمر علي الخديوي عباس وعلي المعتمد البريطاني كتشنر وبعد يومين طلبني واخبرني أن الخديوي مسرور جدا من هذه الفكرة , اما كتشنر فقد رفضها لأن انجلترا لا تريد مضايقة تركيا. فذهبت إلي كتشنر فقال لقد بسطنا يدنا إلي تركيا فبصقت عليها وولت وجهها شطر ألمانيا ومع هذا فإنني لا أجد الوقت مناسبا لقبول الفكرة “(ص 81) .

ويمضي أحمد لطفي في مذكراته، ليذكر واقعة لم ترد في أي سرد تاريخي لهذه المرحلة ” قال لي رشدي باشا أن الخديوي يري أن يشكل وفد من عدلي باشا وسعد باشا وأنت للذهاب إلي لندن للسعي في عرض هذا الأمر علي الحكومة البريطانية مباشرة وعليه التكاليف 0 واجتمعنا في بيت سعد باشا لندبر الخطة وبدأت أنا في حملة صحفية بالجريدة بعنوان ” سياسة المنافع لا سياسة العواطف “وفي هذه الأثناء قام الأمير عمر طوسون وبعض الكبراء والأعيان لجمع تبرعات لمساعدة تركيا في هذه الحرب وأخذوا يطوفون البلاد لهذا الغرض ويشترون السلاح والمؤن ويرسلونها للجيش التركي في طرابلس فتبدت الأمة وكأنها كلها تقف مع تركيا فتداولنا نحن الثلاثة سعد وعدلي وأنا في هذا الموقف العسير لأن الأمة وهي في هذا الحال من تأييد تركيا والإقبال علي مساعداتها والتبرع لها لا يمكن أن تبدو وكأنها تريد الانفصال عنها ولهذا لم ينجح مشروعنا (ص 82) .ونواصل ..

 

 

التعليقات متوقفه