محطات فى الرحلة العميقة

110

حين سقطت تجربة الدولة الاشتراكية الكبيرة فى الاتحاد السوفيتي، كان الدكتور رفعت السعيد قادما من بعيد فى شارع الإسكندرية فى مدينة مرسى مطروح. وصعد إلى مقر الحزب الذي كان فى شقة فى الطابق الثالث. وتحلق عشرات الشباب الذين يشعرون بالهزيمة، حول الطاولة. وقال بكل بساطة: الاشتراكية لا تموت.
وبدأ اليسار المصري يبحث عن طريق. وخلال تلك السنوات، كان البعض يتعجل البحث عن شاطئ آمن. وبينما شرع الدكتور السعيد، كسياسي وكمؤرخ، فى تقليب أرض الاشتراكية لتجديد القوالب الجامدة، بدأ عدد من القادة والزملاء فى الابتعاد والاقتناع بأن التقوقع داخل الأفكار القديمة يمكن أن يكون طوق نجاة من المتغيرات التي كانت تعصف بالعالم.
من خلال النشرات الحزبية الداخلية والمناقشات الكثيرة التي دارت حول المستقبل، بدا أن حزب التجمع بقيادة الدكتور السعيد، والأستاذ خالد محيي الدين، يسير جنبا إلى جنب مع المفكرين اليساريين فى أوروبا. لقد دخلت أحزاب كبرى فى أوربا فى دروب مغايرة، لتجنب الأخطاء التي وقع فيها الاتحاد السوفيتي.
فى مصر التي تأثرت سلبا بثقافة عربية رجعية، طوال النصف الثاني من القرن الماضي، كانت الحركة إلى الأمام، فى طريق الاشتراكية مكبلة بعراقيل سياسية واقتصادية اجتماعية. وحين سقطت التجربة السوفيتية، استسلم كثير من الزملاء والرفاق. وظهرت انشقاقات وكيانات حزبية وشبه حزبية جديدة. لكن من تبقى فى التجمع، التف حول محاولات تطوير مسار الفكر الاشتراكي وعلاقته بالحكم الديمقراطي ورأس المال والقضايا العربية الرئيسية، رغم الظروف السياسية الصعبة خاصة منذ منتصف التسعينيات وكذا فى السنوات الأخيرة من عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.. خاض رفعت السعيد، مع حزب التجمع، من خلال الكتب والنشرات والمقالات والإصدارات الإعلامية، وحركة الشارع، معركة شرسة مع الرجعية العربية، وعلى رأسها ما يعرف باسم “تيار الإسلام السياسي”، الذي تمكن من التغلغل فى المجتمع المصري، وتحالف هذا التيار (إخوان وسلفيون وغيرهم) مع الرأسمالية وطبقة الفساد.. حين انهار نظام مبارك كان هناك اتجاهان يتنافسان على من يقود المرحلة الجديدة. اتجاه تقوده الرجعية بإمكانياتها المالية والدعائية الضخمة، وتيار يقوده التيار المدني الفقير اقتصاديا، وفى القلب منه اليسار المصري. وفى يوم من الأيام سوف تظهر محاضر الاجتماعات التي عقدها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى خضم ثورة 2011، مع القيادات الرجعية، من أمثال الإخوان والسلفيين ورجال المال والأعمال، وتلك التي عقدها مع قادة التيار المدني، والفرق بينهما.. لقد حذر الدكتور رفعت السعيد فى لقاءاته مع قيادات المجلس العسكري من خطر التكتل الرجعي الذي تتبناه جماعة الإخوان وباقي المتطرفين الذين عادوا من الخارج، ولهذا سارع نظام حكم الإخوان، بمجرد هيمنته على السلطة، لإقصاء حزب التجمع وباقي الأحزاب الاشتراكية والوطنية من أي نشاط أو مشاركة فى صنع مستقبل النظام السياسي.. وحين ظهر تكتل جبهة الإنقاذ لتخليص مصر من حكم المتطرفين، كان هناك نضال يساري آخر، يقف وراءه حزب التجمع وعلى رأسه الدكتور رفعت السعيد، ضد محاولات بعض رموز الرجعية للإبقاء على حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، ومحاولة أطراف فى هذا التكتل الاكتفاء بتجميل وجه حكم الإخوان لكي يستمر فى السلطة، رغم مظاهرات الشعب الضخمة التي كانت تملأ الشوارع حينذاك رفضا لحكم الجماعة وأعوانها.
ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر، بدأت مرحلة جديدة ربما كانت أصعب من جميع ما سبق. فالدولة تحاول، وما زالت، التخلص من خطر إقليمي ودولي يهدد وجودها من الأساس. دعم دولي واسع للمتطرفين والإرهابيين. وطبقة من رجال الأعمال المرتبطين بالرجعية والفساد والتربح من صفقات الاستيراد والاتجار فى العملة الصعبة.
وكان لا بد من أولويات جديدة. وبالنسبة إلى كثر من المؤمنين باليسار والمستقبل الاشتراكي الديمقراطي، كان رفعت السعيد يمثل بوصلة لمعرفة الاتجاهات. إما استغلال الظروف لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل على حساب الشعب ومستقبله، وإما الوقوف مع الدولة وبقائها، حتى تعود للوقوف على قدميها، مع إصلاح ما يمكن إصلاحه، وقبل أن يودع محبيه كان انحياز السعيد واضحا. مع الوطن.
عبد الستار حتيتة

التعليقات متوقفه