مناضل صلب من أجل الدولة المدنية

59

ورحل مناضل قضى حياته مدافعا عن الطبقات الكادحة، ومناضلاً صلباً من أجل وطن عادل يحفظ حقوق كل أبنائه.. وكان مشاركاً دائماً فى بناء ومساندة ودعم قيم المواطنة والعيش المشترك والوطن الواحد الذي لا يفرق بين أبنائه، وستظل الكنيسة القبطية تذكر له مواقفه الوطنية النبيلة والشجاعة،، بهذه الكلمات نعت الكنيسة الأرثوذكسية، وعلى رأسها البابا تواضروس الثاني، الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع السابق، الذي رحل عن عالمنا الخميس الماضي.
فمؤسسة الكنيسة لم تنحاز أو تُبالغ فى وصفها للراحل رفعت السعيد بـ»المناضل الصلب» والداعم لقيم المواطنة، لأنه كان هكذا حقاً، واستحق أن ينال لقب المناضل الثوري الصلب عن جدارة. ففكرة الدولة المدنية والمواطنة شعارات استخدمتها كل الأحزاب المدنية، لكن الوضع اختلف مع حزب «التجمع» بشكل عام، ورفعت السعيد بشكل خاص، فمواقفه الصريحة منذ أربعين عاما ومع تصاعد نشاط جماعات (الإسلام السياسي)، بحسب وصف السعيد له أنذاك، واعتداءاتها على المخالفين لها فى الرأي والعقيدة حذر «التجمع» من تنامي نشاط هذه الجماعات المتطرفة، وبدأ السعيد فى الكتابات والمقالات التي كانت جرس إنذار للجميع من خطر هذه الجماعات المتأسلمة.
من هنا بدأت الحملة المتطرفة من قبل جماعات الإسلام السياسي وأعضائها ضد «السعيد» الذي تعرض للانتقاد بشدة لمناصرته لقضايا الحريات ودعم المواطنة والعدل والمساواة بين كل المواطنين وإلغاء أشكال التمييز، وبالتالي كان لابد وأن تكون القضايا المسيحية والمسيحيين فى مقدمة أجندته من أجل ترسيخ وإعلاء مبدأ الوطنية، فترأس «السعيد» بنفسه مؤتمرات وندوات استضافها حزب التجمع، فى حضور مفكرين وكُتاب مسيحيين لعرض قضايا الحريات والأقباط الخاصة بإنتقاص حقوقاً لهم إبان النظم السابقة، ونُشرت له مقالات عديدة فى هذا الشأن بكل الصحف. وأصبح «السعيد» أحد المفكرين والسياسيين البارزين الذين رأيهم ركن أساسي فى كتابة الموضوعات الصحفية التي تخص القضايا القبطية والمواطنة، وبخاصة أثناء حكم جماعة الإخوان المسلمين.
هاجم نظام مبارك لتمييزه ضد الأقباط
رفعت السعيد كان من أوائل من اتهم الحزب الوطني للرئيس الأسبق مبارك، لإنتهاج النظام سياسة اضطهاد وتمييز ضد الأقباط للمتاجرة بهم، كان «السعيد» والذي قال فى هذا الشأن إنه حول الأقباط لمجرد ورقة سياسة ويتم استغلالها فى أوقات محددة لمصلحة النظام فقط، ويتعامل فى اسناد الوظائف الحساسة والحقائب الوزارية بمنطق المصلحة وليس وفق سياسات.
علاقته بالبابا الراحل
ربطت بين الراحل رفعت السعيد والراحل البابا شنودة الثالث، علاقة صداقة قوية، ولقاءات ودية كثيرة. فـ»السعيد» كان من القلائل الذين كسبوا ثقة البابا الراحل، خاصة عندما خاض مغامرة لزيارة للبابا شنودة بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون أثناء إقامة البابا الجبرية أيام حكم «السادات». وبحسب آراء سياسيين ومفكرين أقباط قالوا إن د. رفعت السعيد أصبح هو الوسيط الوحيد المقبول من البابا شنودة فى العلاقة مع الرئيس مبارك وأجهزة الدولة المختلفة.
ولم يتوقف الأمر عن وفاة بابا الكنيسة شنودة الثالث، فقد استمر السعيد من بعده فى الحديث حول جوانب فى شخصية بابا الكنيسة الراحل، بصفته أحد أصدقائه المقربين. وذكر «السعيد» فى حديثاً له بعد رحيل البابا شنودة فى 2012، أن يد البابا الراحل كانت مانعة للصواعق، وكانت تحمي من صواعق فتنة فى عدة فترات، محذراً، لو اشتعلت الآن لن يطفئها أحد، بعد رحيل البابا، وقد تصل الأمور لحالة لا يمكن التنبؤ بها.
وقال أعرف أكثر من كثيرين أن البابا شنودة «إطفائيو» الفتن فى مصر، مستنداً فى هذا إلى مهابة يخشاها الجميع حكاماً ومحكومين، وإلى محبة لم تتوافر لأحد غيره وسط الأقباط. وهو ما مكنه من ضبط إيقاع الوطن، فإذا اختفت هذه القوة سيبدو الأمر مخيفاً جداً فى ظل التوترات التي كانت تعيشها مصر فى هذه الأثناء عقب ثورة 25 يناير.
وكتب د. رفعت السعيد فى إحدى مقالاته، إن البابا الراحل جاء فى زمن رفع فيه سيف العداء لمصر خصوم ألداء عداوة وأشد خصومة من الاحتلال البريطانى، وكان الخصوم يطمحون فى حالات كثيرة إلى شن حملات ضارية ضد مصر محاولين أن يقصموا ظهرها بسيف الفتنة الطائفية التى تتحول إلى براكين لو أن قداسة البابا أشهر غضباً أمام الرأى العام العالمي، لكنه كان يرتقى بمصريته فوق كل الجراح ويحبط كل طموحات الأعداء. فعندما أتى كلينتون رئيساً راهن على أن يدعو البابا إلى البيت الأبيض قبل زيارة مبارك ليعلن للعالم أولويات غير مقبولة. ورفض البابا.
تكريم أسقفية الشباب لرئيس التجمع
كانت أسقفية الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية، قد كرمت د. رفعت السعيد فى 2013، وقال الأنبا موسى أسقف الشباب أنذاك «إن دكتور رفعت السعيد يعد أحد الرموز الوطنية المتميزة، وموضع محبة وثقة الجميع. كل عام وانتم أكثر حباً وعطاءً يا دكتور رفعت».
‏وفى رحيل السعيد كتب أسقف الشباب «تعزياتي القلبية فى رحيل أغلي الأحباء وأعز الأصدقاء، أ.د رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق. نطلب له جنات الخلد ولأسرته ومريديه تعزيات السماء».
حزن وعتاب لمن نسى البابا الراحل
وجاء مقال د. رفعت السعيد الأخير عن البابا الراحل، حزيناً غاضباً، وكتب فى إبريل الماضي «راهنت نفسى كم مقال سيكتب، كم كتاب سيصدر، كم برنامج تليفزيونى سيذاع بمناسبة ذكرى نياحه. وخسرت الرهان ولم اغضب لأن الجميع انشغلوا بذكرى فنانين ومفكرين وراقصات ولا لأنهم تجاهلوا هذا الصرح الوطنى الشامخ البابا شنودة فهو ليس فى عليائه بحاجة إليهم، وإنما غضبت لأن التأسلم يترسخ ويفرض عنفوانه بل هو يستريح على «حجر الدولة» تدعمه وتسلمه الرأى العام ليبدد مشاعره الوطنية ويدس تأسلمه مكانها. غضبت لأن السلفيين يحاولون ويكادوا أن ينجحوا فى أن يجعلونا ليس مصراً واحدة وإنما مصران. وحتى المجاملات الساذجة والأحضان والقبلات بين لحى ولحى لم تعد موجودة وان وجدت فلدقائق ثم تنسى. فلننهض نحن جميعاً قبل أن تنشق مصر نصفين».
بغض النظر عن الدين والعرق والنوع، فقد ظل رفعت السعيد حتى النفس الأخير ممسكاً بقلمه ويخوض معاركه للدفاع عن الدولة المدنية الحقيقية، رافعاً شعار المساواة والمواطنة، يحارب الأفكار المتطرفة وكل ما هو ضد عادات وموروث الشعب المصري المبني على التنوع كأحد أسرار بقاء الدولة، صاحب الحضارة والتاريخ، الذي علم العالم أجمع.

التعليقات متوقفه