هكذا تحدث رفعت السعيد عن نفسه.. أشعر بمصريتى وهى توجعنى.. وأخوض مياه البحيرة الراكدة لتحريك الساكن

40

هكذا تحدث رفعت السعيد عن نفسه
شيئان لا يعرفهما الإنسان- أي إنسان- لحظة الابتداء، ولحظة الانتهاء..
ولست أدري، وحتي بعد أن غالبت نفسي وغالبتها، فتغلب على تمردها إزاء هذا الأمر، هل سيكون الأمر ممكنا أم لا؟
فكيف يمكن أن تمتلك جسارة الادعاء بإمكانية استدعاء ما كان فى تراكمات هذا الزمن القديم، استدعاء يمنحك شجاعة الكتابة عنه؟ والذاكرة تمتلك دوما نعمة أزلية، فهي دوما ذات ثقوب، وإلا اكتظت بما يثقلها ويهددها بالتبدد بين ما هو مهم وما هو غير ذلك.
والبشر كالمجتمعات، الفرد كالجمة، فى حياته ما هو جدير بالاستدعاء، وما هو غير ذلك.
ولهذا فإن الحكمة الإغريقية القديمة والحكيمة تبقي دوما لتلقي بظلها المهيمن على اية كتابة تاريخية، أو حتي كتابة عن الماضي، وهي ذاتها التي توارثناها كتعريف حاكم ومحكم لعلم التاريخ، يقول : “إنه علم التعرف على الاشياء الجديرة بالمعرفة التي وقعت فى الماضي”.
فكيف لي أن امتطي ثقوب الذاكرة هذه، وأن أتراجع معها وبها إلى أعمق البدايات الاولي، لأتذكر ما كان أو بعضا منه، ثم انتقي ما اعتقد أنه جدير بالمعرفة؟
“جدير بالمعرفة”.. أية عبارة كبيرة؟
فهي تطرح أولا تساؤلا: “جدير” بالنسبة لمن؟
لي.. أم للآخرين؟
وأصلا… هل من حقي أن اعتقد أن ثمة شيئا مما كان بالنسبة لي سيكون جديرا بالمعرفة بالنسبة للآخرين؟ وهل يعني مثل هذا الاعتقاد.. ترفعا آو ادعاء ماكان لمثلي أن يفترضه؟
ويتواصل التردد، إزاء تواصل الإلحاح المتواصل، وهو إلحاح ثنائي المصدر، الأنا فى داخلي، والعديد من الاصدقاء ورفاق الدرب الممتد عبر العمر بأكمله.
واستشعر الوقائع والعبارات وكأنها تناوشني، تغالبني فتغلبني وتفرض نفسها على وعلي سطح الذاكرة، وتفترض أنه قد آن لها أن تخاطب الآخرين، حتي ولو لم يكن ثمة مهتم بالاستماع.
وأهز رأسي أكثر من مرة، وكأني أنفض عنها هذه الفكرة المتسمة بالمبالغة فيما كان، محاولا ابعادها واستبعادها من سجل ما أنوي القيام به فيما تبقي من أيام، وأكاد أقنع نفسي بأنه ما من شيء يمتلك الاستحقاق فى أن يسجل، أو إن شئنا العودة للحكمة الأغريقية، ما من شيء “جدير بالمعرفة” بالنسبة للقارئ أو لمن يفترض أنه سيكون قارئا.
لكن البعض من الاصدقاء يلح، ويفترض أنه ثمة زوايا مهمة تستحق أن تسجل، وأنا نفسي أعاني من إلحاح داخلي. وهموم الأيام ودواماتها.. والسياسة. والكتاب. وقضايا مهمة تتفجر ويتواصل تفجرها ليحول اهتمامي للاهتمام بها، وليتباعد بي عن هذا الأمر الحرج والمحرج.
وتمسك بعض المسائل بتلابيبي: كل ما كان، وما هو كائن الآن فى ذلك الذي كان يسمي بالمعسكر الاشتراكي، وتلاحقني إلحاحات عدة كي أحاول أن الحق بمحاولة فهم ولو أولية لما كان وما سيكون.
وأحاصر نفسي لاكتب بعض الافكار اضمنها كتاب “ماركسية المستقبل” وألحقه بكتاب آخر “كتابات عن الماركسية” لكنها جميعا ليست سوي محاولة للابتداء، وتحتاج بالحتم إلى مواصلة.
ثم هم آخر مهم. هو مسألة “الوحدة الوطنية” وما تغرسه فى نفسي من إحساس مخيف بالخطر، ويتضاعف الاحساس والارتباك والخوف، إذ تجد نفسك وأنت ترتجف وحدك من هذا الخوف.. أن تكون فى سفينة مهددة- أو هذا ما تعتقد- وأنت وحدك الخائف، والآخرون لا يعبأون، بل- وأحيانا- يتهكمون، أو يتهمون بأن هذا الافتراض مفتعل، أو وهمي، أو مصنوع.
وما أبأس أن تبدو كحيوان من ذلك النوع الذي يستشعر خطر الزلزال قبل أن يقع، فيصرخ، لكن الآخرين يواصلون الغياب.
واظل رغم هدوء الآخرين وانكارهم مستشعرا خطر الزلزال الآتي، مدركا- أو متوهما فى نظر البعض- خطورته على مصر وعلي مصريتنا، وأشعر بمصريتي وهي توجعني، وأخوض مياه البحيرة الراكدة محاولا استثارة اية قدر أوقدرة على الحركة فيها، ومحاولا تحريك الساكن، والمطمئن، والهادئ، والمفتعل الهدوء، والخائف، والمتباعد، والمتشاغل، ومتحديا اخطاء الحكم وغضبه، وتهديدات المتأسلمين ووعيدهم، وتأخذ هذه المعركة بخناقي، تمسك بي ولا تتركني، وتنتزع الكثير الكثر من وقتي وجهدي وقراءتي وكتابتي، لكنني، برغم كل المتاعب استشعر أنني بهذه المعركة أصبح أفضل، وأكثر توازنا مع ذاتي، وضميري، ومصريتي، وأبدو فى لحظة ما وكأنني أجهد نفسي كي أجلو ذلك الصدأ الذي يتراكم بفعل الخيمة السوداء التي تخيم على المناخ العام فى بلادنا فتجعله كئيبا وموحشا وغير انساني، أجلوه كي أزيحه عن نفسي، ومحاولا ازاحته عن المناخ العام او بعضا منه كي أصبح أكثر مصرية.
وفى خضم ذلك كله، وإذ تتصاعد المسئوليات الحزبية لتنهك ما تبقي من حياة وحيوية وتستهلكها، يصبح الحلم باستعادة ما كان مجبرا على الأرجاء. فكيف تستعيد هدوء بالك ومقدرتك على محاولة التطلع إلى بذر الماضي، وأنت فى خضم ما يعصف بك، وفى أكثر من اتجاه. ولا تمتلك إزاء ذلك كله الا التجاوب بقدر ما تستطيع، والتوازن بقدر ما هو متاح.
فالعمل السياسي- الكتابة- هموم الوحدة الوطنية، كل منها تحتاج إلى حياة كاملة، فكيف توازن بينها، ثم تتسرب من براثنها، ومن دورانك مع دواماتها التي تتعاكس اتجاهاتها، لتجد قدرا من هدوء البال يمكنك من الكتابة عما كان.
ويظل التردد يغلفني ويستحثني أن أتناسي الأمر كله.
ولكن..وبرغم كل شيء أبدأ بالكتابة.
غير أنه… وحتي بعد ان سطرت الأسطر السابقة، تتبدي لي هموم الحياة وكأنها تتحداني بقدرتها على اختطافى بعيدا عن التواصل أو المواصلة. ويصبح – ممكنا ومحتملا- ألا تكتمل هذه الصفحات، أو أن تخرج مبتسرة وعاجزة عن الارواء… بالنسبة لي، أو للآخرين.
لكنني واحد من الناس، اعتاد أن يتحدي نفسه، واعتاد على اكراهها- احيانا- على فعل ما يريد. فهل أستطيع هذه المرة؟
ذلك هو السؤال؟ بل هو التحدي الذي اعتزم أن أخوضه ضد نفسي.
وابتداء
فإنني لا أنوي أن أسكب على الصفحات القادمة.. مذكرات.. فلا انا ارغب، ولا انا قادر، ولا انا بمستحق أن افعلها ازاء القارئ.
هي فقط بعض ذكريات، والمساحة شاسعة بين المذكرات والذكريات. وتزداد اتساعا اذا ما اخضعت لعملية انتقاء صارمة بأمل أن تتجاوب مع ما هو “جدير بالمعرفة” بالنسبة للقارئ، أو من افترض أنا أنه سيكون قارئا؟
وهكذا سيقف هذا التعريف الاغريقي العريق حائلا بيني وبين البوح بكل شيء، ولعله سوف يشجع بعضا من نوازع تتنازعني بأن ثمة ما يجب ألا يقال. ليس لخشية أو تنصل. وإنما لتشكك فى مدي صحة تقويمي للملابسات التي لابست هذا الفعل، خاصة أن اختلاف المواقع قد يغاير بين الرؤي التي قد تتبدي- بالنسبة لاصحابها على الاقل- وكأنها صحيحة.
وأود أن أقرر، وأن ألح، وأن أكرر، أنني لا إريد إيذاء أحد، ولا الوشاية بأحد همسا فى أذن التاريخ، أو علنا على الورق.
وحتي ما آلمني أو أغضبني فى الماضي فإنه يضحكني الآن.
إنها حكمة بليغة يلقنها لنفسه السجين المعتاد على السجن المستمر، وعلي الظلم الظالم : “ما قد يحزنك اليوم.. قطعا سيضحكك غدا.. سيضحكك عندما تتذكره أو ترويه وقد تحررت من عبئه”.
ولكنني لست قديسا ولا أدعي البراءة المسطحة، ولا أزعم ذلك، ومن ثم فقد أروي- وقطعا سيحدث ذلك- رواية ما من زاوية نظري إليها، أو تفسيري الشخصي لها.. وتلك نوازع يصعب منازعتها مهما ادعيت لنفسك البراءة والحياد.
ومن ثم، فإنني أحذر ومنذ البداية بأنني سأروق الوقائع مستندا إلى رؤيتي لها، ومستمدا انطباعاتي الخاصة عنها وعن اصحابها، ولقد تكون للاخر رؤية اخري، وانطباعات، وحتي تفسيرات معاكسة وهذا حقه وحقي.. ولقد تكون لدي الاخر مبررات او دوافع أو حتي حقائق خفيت عني أو غابت، ولعله يستند إليها فى تبرير ما كان..وهذا حقه ايضا.
ومن هنا فأنني اورد وفقط رؤيتي وما اتيح لي من معلومات.. ومن ثم فلقد يكون حكمي ناقصا، أو حتي ظالما فى بعض الاحيان. حتي تكتمل حلقة المعرفة بالحدث، او الواقعة، لهذا فإن ما سأرويه فى الصفحات القادمة ليس الحقيقة المصفاة، لا أنا أزعم ذلك، ولا هو كذلك فى واقع الأمر.
فما سأرويه هو رؤيتي الشخصية للحدث.. فى حدود ما رأيت وعلمت وسمعت وفهمت، أو حتي فى حدود ما توهمت أنا أنه حقيقة… وربما يكون ذلك كله ناقصا… أو غير محكم، أو حتي غير صحيح.
لكن ما أعد هو أنني أروي ما كان.. فعلا.. دون تحيز أو إضافة أو تزويق.
وهكذا تتحدد ملامح ما أنا مقدم عليه من كتابة.. فهي لوحات غير متلاحقة وهي تحمل أو تحتمل فقط رؤيتي أنا.. لواقعة، وعلي القارئ- إن وجد ذلك ضروريا- أن يبذل بعضا من الجهد، إذا ما أراد التعرف على الكاتب، أن يعمل خياله حتي يضم الصور إلى بعضها ويكمل من عنده ما يكمل الصورة، ولوحات السيراميك فى يد الفنان أدوات تشكيل.. وهي كذلك فى يد القارئ. فبإمكانه أن يتعرف عليها قطعة قطعة أو ينثرها كلها أو بعضها ليعيد تشكيل رؤيته للكاتب.. وتقويمه لما كتب.
ولقد عانيت فى حياتي ثلاثة انواع من الكتابة: كتابة التاريخ- والكتابة السياسية- ومحاولتين يتيمتين لكتابة الرواية.
ثم هذه هي المعاناة الجديدة تماما.
فها أنت مجبر على الحديث عن نفسك، وهو أكثر ما تباعدت عنه دوما، ليس تمنعا أو ترفعا، لكن خوفا من أن انحاز أو اتحيز أو اتجاوز أو حتي أن أنسي حق الآخرين.
وعندما كتبت المجلدات الخمسة لتاريخ الحركة الشيوعية المصرية (اربعة آلاف وخمسمائة صفحة) حاذرت وتعمدت ألا يرد اسمي فى أي منها.
تعمدت الغياب غيابا أخل بالصورة أحيانا، وتعمدت تناسي أشخاص لعبوا ما هو مهم من مهام، وذنبهم أنهم شاركوني أو زاملوني فى هذا العمل.
فقد كنت أكتب منحازًا فقط ضد نفسي، ومتجاهلا إياها، ومحاذرا من أن أصبح مثل هؤلاء الذين كتبوا ما اسموه تاريخ الحركة الشيوعية فجاء الامر تأريخا لأنفسهم، وجعلوا من ذواتهم فرسانا لكل حدث، ولكل حديث، وإذا كان هذا البعض قد بالغ فى الحديث عن دوره، فلقد فعلت النقيض، وربما كان ذلك خطأ من وجهة النظر العلمية على الاقل. بل وظلما لآخرين زاملوني فى الفعل القديم فطويت صفحتهم عمدًا كي أطوي صفحة نفسي، حذرا أو مبالغة فى الحذر من أن تتحول الكتابة عن الحدث إلى كتابة عن الذات كما فعل البعض.
لكن ها أنا اقع فيما حاولت أن اتباعد عنه، وها أنا اضطر للكتابة عن نفسي، فماذا افعل بها… وبالقارئ.. وبالكتابة ذاتها؟

التعليقات متوقفه