ضد التيار: بطرس باشا وعمرو بك

69

 

كان من الطبيعي أن تثير مذكرات “عمرو موسى” عاصفة من التعليقات، والاختلافات في وجهات النظر ، ليس فحسب لأنه شخصية غير عادية ، لعبت أدواراً مميزة في تاريخ الدبلوماسية المصرية والعربية ، منذ عمله في ديوان عام الوزارة ومندوبا لمصر في هيئة الأمم المتحدة ، وسفيرا ووزيرا للخارجية ، وأميناً عاماً لجامعة الدول العربية ، وحتى ترشحه للرئاسة ورئاسته للجنة إعداد الدستور ، بل أيضا لقلة المذكرات اللافتة للنظر من قبل من كانوا شركاء في صناعة تاريخ بلداننا ، لعزوف بعضهم عن تدوين هذا التاريخ ، وترك هذه المهمة للدراسات الأكاديمية ، التي مهما كانت موضوعيتها وأهميتها ، تظل ناقصة ، في غياب شهادة من شاركوا في صناعة هذا التاريخ وكانوا شهوداً على وقائعه .

وفي الجزء الخامس من المذكرات التي تحمل عنوان ” كتابيه ” وتنشرها تباعاً صحيفة الشروق ، توقفت أمام ملاحظة ترتبط بالعلاقة التي جمعت بين ” عمرو موسى ” والدكتور ” بطرس غالي ” .

وطبقا لما ورد في هذا الجزء فإن ” غالي ” كان أحد الذين اكتشفوا مبكرا مواهب ” عمرو موسى ” وأحد من دعموا توليه للمناصب المختلفة وأثروا في تشكيل شخصيته ، وعبر ” موسى ” بطرق مختلفة عن حبه واحترامه لغالي  ، لكن ذلك لم يمنع من احتكاكات في العمل بينهما ، وخلافات نشأت على اختصاصات كل منهما ، كان بعضها مصنوعا بفعل تحريضات من أطراف ثالثة من هواة الوشاية في كل العصور .

وفي مايو 1991 تولى ” عمرو موسى ” رئاسة وزارة الخارجية ، وفي نفس اليوم تم تعيين د. بطرس غالي نائباً لرئيس الوزراء للاتصالات الخارجية ، وهو مصطلح مستجد ، يختلف عن وزير دولة للشئون الخارجية ، وهو المنصب الذي ظل ” غالي” يشغله حتى انتخابه أميناً عاماً للأمم المتحدة .

ويروي ” عمرو موسى ” حكاية تقول أن بطرس غالي حين تولى منصبه الأممي قال نصا للدكتور نبيل العربي :

” شوف يانبيل أنا دلوقت على قمة العالم .. أنا بطرس غالي باشا .. عصمت عبدالمجيد يادوب بك .. أمين عام الجامعة العربية ، وعمرو موسى مثله ، يادوب وزير خارجية مصر ، أما أنا بقى .. بطرس باشا على رأس العالم ” .

وبرغم أن ” موسى ” وصف ذلك المشهد بالطرافة ، وروى جوانب من تنازع د. غالي حول اختصاصاته ، لكنه اكتفى بالسرد ، دون أن يفسر سلوك الدكتور ” غالي ” ويرجعه لأسبابه الحقيقية ، وكل من يقرأ مذكرات بطرس غالي ” طريق مصر إلى القدس ” سوف يشعر بجرح غائر أثار دوما دهشته فضلا عن مرارته وألمه ، لأنه حين أختير للمناصب الوزارية ، لم يكن يفكر فيها ولم يطلبها ، لاهتمامه البالغ بعمله الأكاديمي ، وأنه منذ عُين وزير دولة للشئون الخارجية ، في وزارة ممدوح سالم عام 1977 ، حتى توليه منصب الأمين العام للأمم المتحدة ، ظل في موقعه وزيرا للدولة مع وجود وزراء آخرين للخارجية وعاصر من بينهم إسماعيل فهمي ، ومحمد رياض ومحمد إبراهيم كامل ، ومصطفى خليل ، وكمال حسين علي ، برغم مواهبه وكفاءته وخبراته الدولية غير المحدودة، لسبب بسيط هو اكتشافه أن وزارة الخارجية قد باتت بحكم ضغوط قوى اجتماعية متشددة من بين الوزارات التي لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين .

لم يقدم هذا الجزء من مذكرات ” موسى ” تفسيرا مقنعاً للشكوك والهواجس والجراح التي أدمت روح بطرس غالي وحالت بينه وبين أن يصبح وزيرا لخارجية مصر لأنه مسيحي ، رغم ثقافته الواسعة والمتنوعة والأدوار التي لعبها في المنظمات الإقليمية والدولية للدفاع عن المصالح المصرية ، ويعود إليه الفضل للتنبيه من وقت مبكر بأهمية علاقات مصر الأفريقية ولاسيما دول حوض النيل  وكان في بداية عهد مبارك هو أول من تنبأ بأن الحروب في هذا القرن ستكون حول المياه.

ولا شك أن هناك ألما مزدوجاً شخصيا وعاما ، فهو يكشف لغالي مدى التقهقر الذي وصلت إليه الحالة المصرية عن غيرها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، حيث كان جده رئيساً للوزراء ووزيرا للخارجية ومصر جزء من الامبراطورية العثمانية ، وأعمامه وزراء للخارجية وقت الحماية البريطانية ، ولم تشهد مصر هذا التقهقر إلا طوال العقود الستة الأخيرة ، حيث يحرم من هو مثله من حقه في تولي منصب قيادي فقط لأنه غير مسلم !

ولعل لدى ” عمرو موسى ” من الأسباب ما قد حال بينه وبين الخوض في تفسير ذلك.

التعليقات متوقفه