قضية للمناقشة: البشر أهم من الحجر

58

 

وضع تقرير التنافسية العالمية لعام 2017 مصر في المرتبة 115 ضمن 138 دولة . درس التقرير حالة اقتصادياتها من زاوية القدرة على المنافسة . هذا ولم تكن الزوايا الأخرى أفضل حالا .

ويأتي هذا التقرير ليصب ماء بارداً على التفاخر الذي تزدحم به تصريحات المسئولين حول النمو الاقتصادي في مصر ، وزيادة الصادرات وتدفق الاستثمارات بسبب ما يسمونه بحزمة الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة ، وقد اكتشف غالبية المصريين بالخبرة والتجربة اليومية في كل ميادين حياتهم من الصحة للتعليم ، ومن السكن للعلاج أن ما يسمى بالإصلاحات كان وبالا عليهم ، إذ تزايدت الأعباء التي باتوا غير قادرين على تحملها ، ولكن موضوع التنافسية ظل بعيدا عن الجدل العام الذي غالبا ما يدور حول قضايا صغيرة وجزئية .

ورصد الباحث ” هيثم ممدوح عوض ” المشكلة الرئيسية التي تواجه مصر في هذا السياق ، إذ أن الهيئات والوزارات لا تتيح البيانات المطلوبة بسهولة ، وهو أمر يستطيع أى عامل بالبحث العلمي في مصر أن يلمسه بوضوح . فأي بيان أو إحصائية حكومية يحظر نشرها أو إتاحتها للعامة ، أو حتى للمتخصصين إلا بعد المرور بإجراءات طويلة وروتينية ومعقدة لاقتناع أغلب المسئولين أنها لاتندرج تحت تصنيف الأمن القومي .

وتكون النتيجة ـ طبقا للباحث ـ أن معدي التقارير الدوليين يعتمدون على نتائج استطلاعات للرأي مجهولة المصدر والهوى في حالة غياب البيانات الرسمية مع عدم وجود قوانين وقواعد منظمة لتبادل المعلومات .

ويشكو الصحفيون الذين يعملون كمندوبين في الوزارات من المضايقات التي يتعرضون لها داخل هذه الوزارات ، ورفض الموظفين المسئولين مدهم بالمعلومات التي يبحثون عنها ، ويضطر الصحفيون في هذه الحالة إلى البحث عن قنوات جانبية للحصول على المعلومات ” وكأننا جواسيس ” كما قال لي أحدهم . ودفع الباحث الإيطالي ” جوليو ريجيني ” حياته ثمنا لمحاولته الحصول على معلومات حقيقية .

ويطالب الصحفيون والعاملون في المجتمع المدني منذ سنوات طويلة بإصدار قانون لحرية وتداول المعلومات ولا حياة لمن تنادى ، إذ يعتبر المسئولون مثل هذه القوانين الضامنة للحريات ترفا زائدا عن الحاجة .

وتستبد النظرة الأمنية المحدودة والقاصرة بالمسئولين فيعطلون المراكب السايرة كما يقال . ولا تقتصر النتائج الكارثية لهذه النظرة على الأداء الاقتصادي وتطوره وإنما تمتد لتشمل كل ميادين حياتنا التي تتسيد عليها أجهزة الأمن ، وقد استساغت تدريجيا توسيع مفهوم الإرهاب ، واستفادت من إنجازاتها المشكورة في هذا الميدان لتحول حياة المصريين إلى جحيم ، إذ أن كل مواطن الآن هو إرهابي محتمل .

وتفاقمت عمليات انتهاك الدستور الذي استخقت به السلطات ، وامتنع مجلس النواب عن إصدار القوانين المنظمة لمواده ، واكتظت السجون بمواطنين دون إتهام ، ودون احترام للضمانات التي تحمي كرامة البشر .

وفي علم السياسة إضافة لما علمته لنا خبرة الحياة نجد أن الكل هو الذي يحدد الأجزاء وليس العكس ، والكل هنا هو مجموعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي حادت تماما عن أهداف وشعارات الموجات الثورية المتعاقبة ، فضلا عن سلسلة الاحتجاجات المتواصلة خلال السنوات العشر السابقة على الثورة ، وكان الهدف الرئيسي الجامع لهذا النضال الشعبي المتواصل هو التغيير إلى الأفضل عبر القضاء على الفساد والاستبداد ، وقدم الشعب المصري في هذا السياق صيغة جديدة للديموقراطية تتجاوز الإختزال في صندوق الانتخاب متجهة إلى أعمق أعماق العلاقات الاجتماعية ، وأصبح القضاء على الظلم الاجتماعي المتفاقم هدفا ثابتا لهذه الديموقراطية بعد أن اكتوى ملايين المصريين بنيران الانقسام الطبقي الذي تفاقم عبر المحسوبية والقرب من السلطة وغياب الرقابة الشعبية والمحاسبة وقمع الحريات العامة وتدهور كل مناحي الحياة .

فهل هناك علاقة بين هذه الصورة البائسة التي تواصلت بشكل جديد بعد ” سرقة ” الثورة والتنكيل بشبابها وبين تراجع أو بالأحرى تدني موقع مصر في تقرير التنافسية العالمية ؟ .

يدلنا التحليل المتأني على أن هناك علاقة وثيقة بين هذا الوضع العام ، وتراجع موقع مصر في تقرير التنافسية ، فاستبعاد وتهميش ملايين المصريين عبر الفقر والبطالة يحرم القاعدة الإنتاجية في البلاد من أهم عنصر فيها وهو الطاقة البشرية التي تتبدد في اليأس والإحباط ، خاصة بعد إغلاق آلاف المصانع والورش التي لم تتذكرها السلطة القائمة إلا مؤخرا جدا ، ولم تعالجها علاجا جذريا ، بل تعاملت معها بالقطعة كالعادة ، رغم أن هذه المصانع والورش كانت قد توقفت  بعد الموجة الأولى من الثورة في 25 يناير 2011 ورغم أنها أيضا أدت لتفاقم البطالة .

وبات الانحياز الطبقي للأغنياء في عملية ترتيب أولويات السلطة القائمة التي اختارت أن تنفق المليارات على مشروعات لا علاقة لها بتدهور البنية الأساسية في آلاف القرى ، ولا بحالة التعليم والصحة كعناصر أساسية للنهوض بالتنمية البشرية وظلت الرؤية قاصرة قصورا مخلا حين إختار القائمون على الأمر الحجر بديلا عن البشر كما يقال .

ولا يبقى هذا التدني في موقع مصر في التنافسية العالمية وضعا منبت الصلة بالوضع العام ، ولن يتحسن هذا الموقع بمجرد إتاحة المعلومات رغم أن هذه الإتاحة هي عامل أساسي ، بل نحن في أمس الحاجة لحزمة سياسات جديدة تضع البشر في قلب القلب منها ، ويستعيد المصريون ثورتهم .

التعليقات متوقفه