فريدة النقاش تكتب:انبعاثات عنصرية

260

قضية للمناقشة

انبعاثات عنصرية

فريدة النقاش

صرخ الرجل “جورج فلويد” قائلاً أنا عاجز عن “التنفس” وتكررت صرخاته في وجه الشرطي الذي داس على رقبته بحذائه الثقيل، ولم يأبه للصرخات، وما أن جرى نقل “فلويد” إلى المستشفى حتى فارق الحياة، وكان أحد المارة قد صور الواقعة بالفيديو مصادفة .

ومنذ ذلك الحين تتوالى احتجاجات آلاف المواطنين الأمريكيين لا في مدينة “مينتا بوليس” وحدها في ولاية “مينسوتا” حيث وقعت عملية القتل، وإنما أيضاً في مدن أمريكية أخرى لا فحسب إحتجاجا على عملية القتل الوحشي، وإنما أيضاً ضد تكييف القضية باعتبارها قتلا غير متعمد، وذلك لأن الشرطي واصل مهمة القتل دون أن يأبه لصرخات الرجل .

وقبل سبعة عشر عاماً، وفي مدينة “غزة” قام رجل شرطة إسرائيلي يقود دبابة بدهس الشابة الأمريكية “راشيل كوري” التي كانت قد ذهبت إلى “غزة” متضامنة مع الشعب الفلسطيني، واحتجاجا على الاحتلال الإسرائيلي، صرخت “راشيل”  حينذاك في وجه قاتلها “أنني عاجزة عن التنفس”  فعاد القاتل بدبابته إلى الخلف ثم إندفع بدم بارد، وبكل قوة ليدهس الفتاة إلى أن فارقت الحياة .

وتبرز العنصرية كقاسم مشترك بين الواقعتين “فلويد” أمريكي أسود من أصول إفريقية و”راشيل كوري” أمريكية بيضاء قررت أن تقاوم العنصرية الصهيونية، ولعلنا نذكر في هذا الصدد أن الأمم المتحدة كانت قد أصدرت قراراً يساوي بين الصهيونية والعنصرية، وذلك في أوج الانتصارات الكبرى لحركة التحرر العالمية التي سرعان ما أنكسرت تحت ضغط الصعود الكبير لقوى اليمين على المستوى العالمي، ثم نجح هذا اليمين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الغاء قرار الأمم المتحدة، ولكن هذا الإلغاء لم ينجح في محو السجل الأسود للحركة الصهيونية كحركة عنصرية، وقد عززت الممارسات الوحشية لإسرائيل الجوهر الحقيقي للصهيونية كمنظومة عنصرية شأنها شأن النازية، وشأن عشرات الحركات سياسية وثقافية على الصعيد العالمي تأسست جميعاً على مفهوم عنصري يقوم على تفوق جنس على جنس أو لون على لون أو طائفة على أخرى أو رجال على نساء ويصل هذا المفهوم إلى ذروة في الانقسام الطبقي واستئثار أقلية بالثروة ثم بالسلطة، ثم إنتاج الأفكار والمفاهيم العنصرية وممارستها في العلاقات الاجتماعية .

وتعددت على إمتداد التاريخ الإنساني المنابع التي تغذت منها الأفكار والفلسفات العنصرية، وأن ظل المنبع المركزي لها جميعاً هو الاستئثار بالمنافع المادية والثروات، ثم الدفاع عنها ضد التطلعات والأماني الشعبية لإقرار العدالة، ودار الصراع على مدى التاريخ متخذاً أشكالاً كثيرة ومتنوعة حملت جميعا خصائص وملامح الشعوب التي انتجتها وأن اتفقت جميعا في الأساس المركزي لها .

نشأت العبودية في هذا السياق التاريخي مجسدة أعلى وأقسى درجات التملك، فمالك العبيد لم يكن يتحكم في عمل العبد وحده بل في كل وجوده الإنساني وفي جسده، وكانت علاقة السيطرة الكلية هذه علاقة سياسية مبنية على العنف والغزو والنهب الذي تمارسه مجموعة من البشر على مجموعة أخرى مستندة إلى ماراكمته واستحوذت عليه من ثروات، وتبريرا لهذا التملك والاستحواز الجائر على الثروة نشأت أفكار التفوق العنصري، وهي الأفكار التي كانت تخبو وتتراجع كلما إنتصرت حركات التحرر والتقدم الإنساني، القائمة على العدالة والمساواة، وتأتي هذه الانتصارات عادة في ظل صراع ممتد عبر التاريخ الإنساني كله، وفي لحظات إنكسار مسيرة التقدم تنبعث مجدداً الأفكار والممارسات العنصرية .

وتعيش الإنسانية منذ عقود مرحلة إنكسار منذ سقوط التجربة الإشتراكية الأولى في الاتجاه السوفيتي وبلدان شرق أوروبا، وهي التجربة التي نجحت ـ رغم كل مثالبها وأخطائها ـ في إنتاج مجموعة من الأفكارو القيم العليا التي سرعان ما تراجعت بعد إنهيار التجربة، وكان هذا الانهيار أحد أسباب بروز الرأسمالية المتوحشة بكل  ما صاحبها من أفكار وممارسات عنصرية إجتاحت العالم كله دون رادع، ورصدت علوم الإقتصاد والاجتماع منذ ذلك التاريخ زيادة هائلة في التفاوت الاجتماعي، فزادت ثروات المالكين حتى أن أربعة أخماس البشرية لا تحظى سوى بخمس الإنتاج والاستهلاك، ويستأثر الخمس الذهبي بأربعة أخماس الإنتاج والاستهلاك، ويعيش مليار شخص بأقل من دولار في اليوم، وينفقون في السنة، أقل من ما ينفقه مليونير في ليلة واحدة في أحد الفنادق الفخمة، كما يقول ” بيل كلينتون ” كشاهد من أهلها .

وأنتج الجهاز الأيديولوجي والإعلامي الجبار للرأسمالية المتوحشة مجموعة من القيم والأفكار المضادة للتقدم الإنساني والمؤسسة للعنصرية، ومن ضمنها أن الفقراء هم وحدهم المسؤولون عن فقرهم، وهم من سماهم عالم الإجتماع الفرنسي الراحل ” بيير بورديو” وهو يدرس ظاهرة مدارس الفقراء ـ سماهم ” منبوذو العالم ” .

ويجسد الرئيس الأمريكي  “دونالد ترمب” أوضح وأقوى نموذج للعنصرية هو الذي طالما عبر عن احتقاره للأمريكيين من أصل أفريقي لأنهم “سود” وهو ينتمي لما سماه الجنس الأبيض “ولعلنا نذكر أن الأمريكيين البيض، والعنصريون منهم على نحو خاص هم الذين حملوه إلى البيت الأبيض، وتشاركت كل القوى العنصرية في المجتمع الأمريكي في حملته الأنتخابية من النازيين الجدد إلى المسيحيين الصهاينة، وحزب الشاي اليميني المتطرف، وطالما رأى هؤلاء جميعاً في خطف الأفريقيين من بلادهم واستعبادهم أمراً مشروعا.

ومن موقع الولاء للمسيحية الصهيونية كحركة عنصرية ساند ترمب كل ممارسات إسرائيل الاستيطانية الإحتلالية ضد الفلسطينيين .

ولم يتوان “ترمب” عن التعبير الصريح عن عنصريته في مواجهة واقعة القتل “الأبيض ” التي راح ضحيتها البرئ ” فلويد “، وحين أخبره حرسه أن مظاهرات الاحتجاج وصلت إلى البيت الأبيض قال إن “الكلاب في إنتظارهم” .

وليست هذه إلا بعض مظاهر انبعاث العنصرية في ظل الرأسمالية المتوحشة، غيض من فيض كما قال، لكن الصراع ضدها لم ولن يتوقف، ولنا في احتجاجات الأمريكيين المتعاظمة عبرة، كما أن لنا في سابق انتخابهم لرئيس أسود درس .

التعليقات متوقفه