فنجان قهوة ..ضحى عاصي تكتب:مع فطيرة التفاح الأمريكية

456

فنجان قهوة

مع فطيرة التفاح الأمريكية

بقلم ضحى عاصى

هذا المشهد.. «فلويد» يصرخ “لا أستطيع التنفس” بينما الشرطى المدجج بكم هائل من الأسلحة  بحزامه الثقيل الذى يحتوى على كلابشات حديد وكلابشات بلاستيكية وعبوات من رشاش الفلفل وصاعق كهربائى, وهراوة شرطية ومسدس يحتوى على عدد يتراوح بين ثمانية إلى 16 طلقة وخزنتين طلقات احتياطى ولاسلكى وكاميرا للتصوير وبندقية خرطوش فى السيارة، ورغم كل هذا يستكمل الضغط بركبتيه على رقبة «فلويد» لمدة ثمانية دقائق حتى يفارق الحياة.

لم تكن حادثة «فلويد» هى الأولى من نوعها، ففى السنوات الأخيرة نجد مايكل براهام، الذى قتل على يد شرطى أطلق عليه أربع رصاصات فى 2014 لمجرد أن الشرطى شعر بالخوف منه, وحادثة رودنى كينج الذى تعرض للضرب بعنف من ستة من أفراد الشرطة وبرأهم القضاء وغيرها كثير من الحوادث التى تتسم بالعنف والعنصرية فى متلازمة أمريكية يمكن وصفها “بفطيرة التفاح” هذا المصطلح الدارج فى أمريكا للتعبير عن أى شيء أمريكى أصيل.

يتداعى أمام الذاكرة تاريخ طويل لدولة قامت على التوسع والاستيطان على حساب السكان الأصليين، واستجلاب الأفارقة بالسفن ليزرعوا لهم التبغ والقطن ويعمروا الدولة وإجبار الولايات الثلاث عشرة التى قررت الانفصال على البقاء فى الاتحاد الفيدرالي مما أنتج الحرب الأهلية  التى مات فيها ما يقرب من ستمائة ألف, ورغم إيجابية  تحرير العبيد سنه 1863، فإن  العنصرية ظلت قائمة شعبيا ومؤسسيا بشدة، وخاصة فى الولايات الجنوبية فرفضوا تسجيل السود فى جداول الناخبين والسماح لهم بالإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات، كما تم حرمانهم من التعليم فى مؤسسات البيض, واخضاعهم لفصل عنصرى بمنعهم دخول مطاعم البيض أو ركوب المواصلات العامة مع  البيض وتخصص لهم فقط المقاعد الخلفية ومنعهم من شرب المياه من الحنفيات المخصصة للبيض فى الشوارع واستمر ذلك طويلا.

بعد الحرب الأهلية، قادت أمريكا حروبا عنيفة وتوسعية ضد المكسيك وفرنسا وإنجلترا سيطرت بها على القارة الشمالية والجنوبية، ثم خاضت أمريكا حربا ضد إسبانيا واحتلت الفلبين وكوبا, عززت  الأفلام الأمريكيه مثل أفلام الكاوبوى منذ العشرينيات حتى السبعينيات العنصرية والعنف بتمجيد الغزو الأبيض للقارة وقامت بشيطنة السكان الأصليين ووصفهم بأنهم برابرة وهمج.

ومع حلول الحرب العالمية الأولى، اكتفى الرأى العام الأمريكى بأنه أصبح مسيطرا وقضم من العالم ما يكفى ولا يحتاج لدخول صراع فى أوروبا على الإمبرطوريات القديمة، ولذا اشتركت أمريكا بتردد متأخرة فى آخر الحرب العالمية الأولى, توقفت أمريكا عن التوسع ولكنها ما زالت تحمل ما بين ضلوعها ثقافة العنف، فانفجرت داخليا بعد الانهيار الاقتصادى 1930  فى شكل عصابات منظمة للإجرام والتهريب وسطو على البنوك, وقد واكبت صناعة السينما التى تمجد القوة والعنف هذا النموذج بصور مختلفة سواء فى أفلام الجريمة المنظمة والسطو وما بها من مطاردات وأسلحة وقتل وحتى في أفلام الخيال العلمى.

ومع بدايه الستينيات من القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الدولة فى سن قوانين الحقوق المدنية لمناهضة للعنصرية، والتى كانت متغللة فى البناء الاجتماعى والسياسي وخاصة فى الولايات الجنوبية، وبالإضافة لقوانين المساواة سنت أيضا قوانين لمنح السود بعض التمييز الإيجابى مما جعل هناك ردة فعل عنصرية من  بعض البيض, بمساعدة الشرطة التى كانت مؤسسيا ومنهجيا تمارس العنف ضد السود، بدأ حراك طويل أيضا من أجل حقوق السود والأقليات الأخرى, الولايات المتحدة انتخبت رئيسا أسود، ورئيس أركان أسود، ووزير خارجية أسود، حتى مدينة مينيابوليس التي قتل فيها جورج فلويد، رئيس شرطتها أسود، ورئيس الادعاء الفيدرالي أسود، بل أن المدهش أن الأربعة ضباط شرطة المتهمين في القتل الخطأ لجورج فلويد  أحدهم من أصول فيتنامية والرابع له أصول إفريقية.

المتابع للأوضاع الداخلية الأمريكية يعرف أن الغالبية العظمى لسكان الولايات المتحدة أكثر من ٦٠ % لا تمتلك مسكنها، ولا تستطيع تدبير إيجار مسكنها إلا بجهد جهيد، بل أن الولايات المتحدة صاحبة أكبر نسبة من المشردين بدون سكن أو مأوى من بين دول العالم الأول، وأنها من أقل دول العالم في أعداد الشرطة بالنسبة للسكان، وأكبر أعداد المسجونين بالنسبة للسكان، وأعلى نسبة امتلاك للأسلحة النارية لدولة صناعية من العالم الأول، ولكنه يعرف أيضا العدوانية التى يتعامل بها رجال الشرطة فى المواقف العادية، ويدرك أيضا كمية العنف الموجودة تجاه رجال الشرطة، وأن المادة الثانية من الدستور الأمريكى تعطى الحق للمواطن فى حمل السلاح النارى وتكوين ميليشات.

المتابع للمظاهرات ضد العنف الشرطي اليوم في الولايات المتحدة، يستطيع أن يلاحظ أنه رغم الشعار الذى رفعه المتظاهرون حياة السود مهمة Black Lives Matter.  أن أكثر من نصف المتظاهرين من غير السود، وأنهم لا يطلبون المساواة لغير البيض فقط كما حدث في سنة ١٩٦٥،  لكنهم  يطالبون  بدولة العدل والمساواة للجميع، فالناس لم تعد تستسيغ أن يقتل مواطن متهم أثناء القبض عليه، مهما كان لون بشرته، ولكن المدهش أن النظام والقوانين الكثيرة  التى وضعت في السنوات الأخيرة من أجل الحقوق والأمن والمساواة في الولايات المتحدة يصونهم  فعليا الاستعمال المفرط  للقوة وكأن فطيرة التفاح الامريكية عجينتها هى العنف.

التعليقات متوقفه