د. عبد الفتاح مطاوع خبير المياه يكتب:بعد فشل مفاوضات سد النهضة ..مذكرة إثيوبية جديدة لمجلس الأمن

917

سارعت الحكومة الإثيوبية بإرسال مذكرة جديدة لمجلس الأمن أمس الأول الإثنين ٢٢ يونيو ٢٠٢٠ ، ترد بها على مذكرة مصر لمجلس الأمن التي تم إرسالها يوم الجمعة ١٩ يونيو ٢٠٢٠ بعد فشل جولة المفاوضات الثلاثية الأخيرة حول سد النهضة، والتي عقدت بدعوة من السودان الشقيق في شهر يونيو الجاري، عبر تقنية الفيديو كونفرنس، بين مصر و السودان وإثيوبيا وحضور دولي، لاستكمال التفاوض بعد توقفه نتيجة الغياب الأثيوبي وعدم ظهوره فى نهاية جولات التفاوض، التي عقدت في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، تحت مراقبة من فريق وزارة الخزانة الامريكية وفريق آخر من البنك الدولى .
وكانت وثيقة واشنطن خليط متوازن ما بين رغبات الدول الثلاثة حول إدارة وتشغيل السد وأمانه، وآلية قانونية مناسبة لفض المنازعات، ناتجة من الخبرات السابقة في إدارة مياه الأنهار الدولية المشتركة بكل قارات العالم.
لكن الحكومة الإثيوبية تتجاهل هذه الحقائق لتقدم لمجلس الأمن رواية أخرى، في ردها على رسالة مصر لمجلس الأمن.

تكوين الرسالة الإثيوبية:
تتكون الرسالة الإثيوبية من ٧٨ صفحة، منها خطابات مختصرة للرسالة موجهة لرئيس المجلس وأعضائه بعدد ٦ صفحات، ومذكرة بعدد ٩ صفحات تتضمن مختصر للمذكرة وعشرة موضوعات رئيسية من ٣٦ نقطة، ثم الخلاصة وملاحق من ٦٣ صفحة.
وتنطوي المذكرة على عشرة موضوعات تبدأ بحديث عن المفاوضات الثلاثية، وتنتهي بحديث عن المعوقات والنقاط العالقة، لكن المذكرة تنتهي بحشد من الملاحق تبلغ ٦٣ صفحة، تضع بينها سوابق لاعتراض الحكومات الإثيوبية على مشاريع أقامتها مصر، مثل السد العالي ومشروعات توشكى وترعة السلام، وبعض الاتفاقيات من بينها نسخة من اتفاقية ١٩٠٢ بين إثيوبيا وبريطانيا العظمى فى شأن عدم اقامة مشروعات اثيوبية على روافد النيل الا بموافقة بقية الدول .

فما الذي تريده مذكرة اثيوبيا؟
من المثير للدهشة أن المذكرة الإثيوبية تقول أن مفاوضات الأسبوعين الماضيين كانت جيدة، وأن السودان هو الذى طلب توقف المفاوضات للرجوع للتشاور مع القيادة، وتقول أن إتفاقية ١٩٥٩ بين مصر والسودان هي اتفاقية استعمارية، وتضيف أن مصر لم تقدم في رسالتها لمجلس الأمن يوم ١٩ يونية الجاري صورة من اتفاقية ١٩٥٩، وتعيد تكرار خديعتها القائلة أن مصر تحصل على نصيب الأسد من مياه النيل، وتتهم إثيوبيا مصر بأنها تريد حشر اتفاقية ١٩٥٩ فى التفاوض بأى طريق، وتؤكد أن إثيوبيا لن تحد من حقوقها للتنمية في مياه النيل في المستقبل، وتقول المذكرة أن إثيوبيا طرحت العديد من الحلول للنظر في خلافات التفاوض مثل الاتحاد الأفريقي ومسودة الاتفاق الإطاري للتعاون بين دول حوض النيل (الناقصة)، وتضيف أن مصر تتهم إثيوبيا بأنها تتخذ إجراءات أحادية.
مع أن مصر سبق وأنشأت السد العالي دون استشارة مع إثيوبيا، وأنها كانت تقدمت بمذكرات للاعتراض على مشروعات مصر فى ١٩٥٦، ١٩٥٧، ١٩٨٠ ، ١٩٩٧، وأن مصر نقلت مياه من النيل لتوشكى ولسيناء، وأن مصر رفضت التوقيع على مسودة الاتفاقية الإطارية (المنقوصة) للتعاون بين دول حوض النيل .

وماذا تريد من مجلس الأمن؟
وتقول المذكرة الإثيوبية لمجلس الأمن، أن مصر جاءت إلى مجلس الأمن لتقول أن هذا تهديد للأمن والسلم العالميين، وهذا غير صحيح، فتاريخنا مع الأمم المتحدة ومنظماتها مليء بممارسات تتمشى وقواعد ونظم الأمم المتحدة.
وقد قطعنا شوطاً كبيراً في التفاوض في الموضوعات الفنية، وباقي لنا أشياء صغيرة لتقليل الفجوة في الشق القانوني، وأننا (أثيوبيا) على استعداد للتفاوض لو الآخرين لديهم إرادة سياسية، ولم يمارسوا ضغوطاً سياسية للحصول على أقصى ما يريدون.
وتضيف المذكرة، أن إثيوبيا يجب ألا تتحمل اللوم وحدها، وتؤكد أثيوبيا للمرة الثانية أن السد لتوليد الطاقة الكهربية، ولا يسبب ضرراً لأحد، وهو سد وطني غرضه التنمية للمواطنين، ومصر تعرف ذلك جيداً، لكنها تريد تسييس الموضوع بهدف إبقاء سيطرتها على النيل.
وتطلب المذكرة الإثيوبية من مجلس الأمن ألا يعطي أهمية أو وقتاً لدولة رافضة للنتائج العادلة والمكسب للجميع، الذي يحقق الأمن والسلم.

وتتهم مذكرة إثيوبيا مصر، باتهامات شتى، حيث تقول أنه يوجد إصرار من مصر على الحقوق التاريخية والاستخدامات المائية الحالية، وأن مصر تحاول أن تقود مجلس الأمن للطريق وللسكة الغلط، مع أن مصر، في رأي إثيوبيا، خالفت ما جاء بإعلان المبادئ، وذهبت لمجلس الأمن دونما الرجوع للرؤساء الثلاثة، وأن مصر تخطت كل الآليات الأخرى مثل الاتحاد الأفريقي، وأسلوب حل المشاكل الإفريقية بواسطة الأفارقة، وتصل مذكرة أثيوبيا إلى القول أنه لو هناك تهديد للأمن والسلم، فإن مصر هي المسئولة، فهي طالما هددت باستخدام القوة.

ما هدف إثيوبيا من هذه المذكرة؟
من الواضح أن الحكومة الاثيوبية تحاول إطالة أمد الموضوعات المرتبطة بسد النهضة، لأن لديها مشاكل عديدة بالداخل الإثيوبي، وتحاول أن تجعل من موضوع سد النهضة، والخلاف مع مصر حول قضايا القوانين الاستعمارية، و حصة إثيوبيا الصفرية من مياه النيل، وأكذوبة منع الشعب الإثيوبي من التنمية وخلافه شماعة يعلق عليها الحكم أزمته، و يعلق عليها مشاكله الداخلية من صراعات بين القبائل، وتأجيل للانتخابات البرلمانية، وبالتالي تأجيل اختيار رئيس وزراء جديد لأجل غير مسمى، بحجة جائحة كورونا وغيرها.
و بناء عليه، ومن واقع خبرتي المتواضعة في هذا المجال، و دون غرق في تفاصيل كثيرة ليس لها معنى، وموضوعات تم حشوها وحشرها لأجل تمييع الموضوع، فإنني أعتقد أن الرد على المذكرة الاثيوبية، ومن واقع ما تقدم، من الممكن أن يتلخص فى النقطتين التاليتين:

النقطة الأولى:
ومحورها الرئيسي من إعلان المبادئ في ٢٣ مارس ٢٠١٥ ، وفي الملحق الأول بالرسالة، وما جاء بالبند الخامس، وفي النقطة الرابعة منه، فإن “الحد الزمني لإنهاء الدراسات هو ١٥ شهراً من إعداد تقرير الخبراء الدوليين” ، وقد تم تقديمه من قبل فى ٣١ مايو ٢٠١٣ ، وكان المفترض الانتهاء منه، ولكن لأسباب تتعلق بالمراوغة تأخر كثيراً، حيث كانت نهاية الخمسة عشر شهراً من المفترض لها يونيه ٢٠١٦ ، ونحن الآن في يونيه ٢٠٢٠ متأخرين أربعة سنوات عن الميعاد، والآن إثيوبيا تطلب المستحيل، بالرجوع للمفاوضات، وللبدء في ملء السد بداية من يوليو القادم، دون إنهاء الدراسات، إلا إذا كانت لها أجندة خفية، وهي عدم انتهائها من أعمال التشييد والبناء، والتجهيزات للتشغيل التجريبي لعدد ٢ توربينة لتوليد الطاقة.
والخلاصة هنا، أنه إذا لم يتم وضع سقف زمني للمفاوضات، وأن تكون نتائج مفاوضات واتفاق واشنطن هي المرجعية للتفاوض، ووجود فريق المراقبين من واشنطن، بالإضافة لمن تراه إثيوبيا من مراقبين آخرين، والاتفاق على آلية لفض المنازعات بالمستقبل بها طرف دولى رابع، فسنظل ندور في حلقة مفرغة .
والامثلة على ذلك كثيرة، من أحواض الأنهار الدولية المشتركة، ومنها اتفاقية نهر الجانج ما بين الهند وباكستان، حيث الطرف الدولى متواجد للمراقبة وللدعم الفني.

النقطة الثانية:
ومحورها الرئيسي ما جاء باتفاقية ١٩٠٢ والواردة بالملحق السادس، حيث منطوق البند الثالث منها “يتعهد صاحب الجلالة الإمبراطور منيلك الثاني ملك الملوك الإثيوبي لحكومة صاحب الجلالة البريطانية، ألا ينشئ أو يسمح بإنشاء أية أعمال على النيل الأزرق، بحيرة تانا أو نهر السوباط، التى يمكن أن تحجز سريان المياه للنيل، إلا بموافقة حكومة صاحب الجلالة البريطاني والحكومة السودانية”.
وهذه الاتفاقية هي عقدة إثيوبيا في الماضي والحاضر، وستظل بالمستقبل، في إطار قواعد ومبادئ القانون الدولي للأنهار الدولية المشتركة، ولمعاهدة ڤيينا المرتبطة بتوارث القوانين .
ومن محاسن الصدف في المذكرة الأثيوبية، أنها باركت ولأول مرة اتفاقية ١٩٠٢ الواضحة جداً ، ولكنها قامت بشرحها في الرسالة الاثيوبية لمجلس الأمن بأنها وبحسن نية وقبل إرساء قواعد ومبادئ القانون الدولي، وافقت على عدم منع مياه النيل لدولتى المصب، وهو تفسير ساذج لا يمكن قبوله لا في الزمان ولا في المكان، وهي تعلم أن دولتي المصب، هما المصرف الطبيعي لمياه النيل الزائدة بدول المنابع.
كما قامت فى رسالتها بتوصيف اتفاقية ١٩٥٩ بين مصر والسودان بأنها اتفاقية استعمارية، فأين هو الاستعمار في اتفاقية عام ١٩٥٩؟ إلا إذا كان الاستعمار البريطاني لمصر في اتفاقية ١٩٠٢ ، و الاستعمار البريطاني لمصر وكذا الوصاية العثمانية فى اتفاقية القسطنطينية ١٨٨٨ ، والتي تستفيد منها إثيوبيا بمرور بضائعها من قناة السويس.

ما تبقى من تعليقات على الرسالة الإثيوبية:
تتسم اللغة التي كتبت بها الرسالة الإثيوبية، وعلى الأخص ما جاء بها عند طلبها من مجلس الأمن ألا يلتفت إلى الرسالة المصرية، و ألا يعيرها أي اهتمام باستعلاء غير لائق، وغير مفيد، ولا يضير شعب عريق كالشعب المصري ودولة عريقة كالدولة المصرية.
أما الملاحق التي تم حشوها وحشرها في الرسالة الإثيوبية – مثل مسودة الاتفاقية الإطارية، وملحق المادة ١٤- ب الشهيرة للتعاون بين دول حوض النيل – والإتفاقية الإطارية  غير كاملة ومنقوصة ومغلوطة فى بعض أجزائها ولم توقع عليها مصر والسودان ولم تصبح أبداً اتفاقية.
أما الادعاءات الكاذبة بأن إثيوبيا ليس بها مياه، في حين أن مناخها خليط ما بين الاستوائي وشبه الاستوائي، والادعاء بأن مصر ذات المناخ الصحراوي الجاف تحصل على نصيب الأسد من مياه النيل، فهي ليست أكثر من ادعاءات كاذبة يدحضها ويرفضها الواقع.
أما الحلول الوهمية المطروحة من إثيوبيا عند التفاوض مرة أخرى، مثل اللجوء للاتحاد الأفريقي وإلى مسودة الاتفاقية الاطارية ومبادرة حوض النيل، فكلها حلول وهمية لإضاعة الوقت، ومجرد شماعة لتعليق مشاكلها على الآخرين.
ومن الواضح أن التغيرات السياسية الكثيرة في إثيوبيا خلال النصف قرن الماضي، من إمبراطورية إلى اشتراكية إلى حرب أهلية إلى فيدرالية، إلى انفصال إرتيريا ثم حروب الحدود معها ومع الصومال والسودان، ستكون نهايتها انفراط العقد الإثيوبي إن عاجلاً لتلك الأسباب، أو آجلا بسبب جائحة كورونا.

ويتبقى تعليق:
فلم أتحدث هنا عن اتفاقية القسطنطينية ١٨٨٨ ، والتي تنص في بندها الأول على تعهد جميع دول العالم بحرية الملاحة بقناة السويس، وفي بندها الثاني بالتعهد بضمان تدفق مياه النيل عبر ترعة الإسماعيلية لمدن القناة وسكانها، وهم يقعون بنهايات نظام الري بمصر، وفي مادتها الثامنة بأن تعهد الدول إلى مندوبيها بالسهر على ضمان حرية الملاحة، ووصول مياه النيل لهذه المنطقة، فإن هذه الاتفاقية تلزم المجتمع الدولى بكل دوله وأطرافه ومؤسساته، بضرورة حفظ الأمن والسلم في شرق وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث يوجد تهديد لمصالحة حال الشروع في الملء الأحادي دونما اتفاق.
للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لمؤلفنا ” بوليتيكا سد النهضة” الصادر عن مؤسسة الأهالي في مارس ٢٠١٧.

*بقلم د. عبد الفتاح مطاوع خبير المياه

التعليقات متوقفه