أشرف بيدس يكتب:”الليدي”

171

“الليدي”

*بقلم أشرف بيدس :

“هانم” من هوانم الفن الكبريات, بنكهة مصرية وسمات شعبية أصيلة, الإناقة والذوق علامات بارزة تخضع لتفاصيل عديدة احترفت رجاء الجداوي تضفيرها وصارت بالتراكم اسلوبا احتفظت بأسراره, رغم أنها بنت الطبقة المصرية المتوسطة بكل سماتها وجغرافيتها, امتهنت العمل في سن صغيرة (15 عاما), وخبرت الحياة ومرارة العيش لإعانت نفسها ووالدتها, وقد ساعدها ذلك علي اكتساب الخبرات وفهم الحياة بما تتطلبه من وعي ودراية وحرص شديد, استطاعت أن تغير كثيرا من مفاهيم “الهانم” الكلاسيكية المتأففة والمبالغة, بل كانت السخرية وروح الفكاهة أسلحة تستخدمها لفك طلاسم المواقف المعقدة, فهي “الهانم” الحديثة رغم كل المتغيرات والظروف التي ظرأت علي المجتمع, فكانت الجدية دون صرامة, والاعتدال بغير صلف, والكبرياء المرن, وهي صفات تحتاج إلي قدرات خاصة لتجسيدها وترجمتها للمشاهد.
طغت شخصية رجاء الجداوي، علي أعمالها, فلا يمكن بأي حال فصل طباعها وملامحها عن الشخوص التي كانت تقوم بتأديتها علي الشاشة, فهي لا تخضع لملامح الشخصية بقدر ما تخضع الشخصية لها, هكذا كانت في أغلب أدوارها مميزة حاضرة, الأصل يجتاح الصورة ويسبغها حتي تستلم طواعية.. تتلاشي الأدوار ويبقي اسم رجاء الجداوي بارزا لا تمحيه أي عوامل أخري, الطلة الأنيقة, المظهر الشيك, الضحكة المميزة. الالقاء المتسق والمتناغم, أما عن الاتيكيت والأصول فهي ناظرة مدرسة اللباقة, اضافة للثقافة المتنوعة, والحس الانساني والوطني العاليين, كل ذلك وغيره ساعدها علي التعاطي من منطقة خاصة تلائمها وتناسبها شكلا وموضوعا, ولا تفرض نفسها عليها, بل هي وثيقة الصلة بها, بقعة مضيئة تضيف للكادر الفني بهاء وضياء ورونقا نشتم منه رائحة عطرها الآخاذ, لا تحمل شيئا مستعارا كلها أشياء حقيقية اصلية ومن برندات لا يستخدمها الا الصفوة.
هي “ليدي” بمقاييس الفن والحياة, لم تعش في برجها العاجي وصالونها الابيسون بل كانت تدرك تفاصيل الحارة والشارع والسطوح والبدروم, وتعاملت مع ساكنيها, وفهمت ظروفهم واحتياجاتهم ونواياهم, ولم تستخدم حدتها إلا لمن يخرج عن السياق, ارتبطت وظيفة عارضة الأزياء في الوجدان المصري باسم رجاء الجداوي, ورغم ظهور أجيال عديدة من المانيكانات لكن ظل اسمها هو الرائج والعلامة المميزة والمحتكرة لهذه المهنة.
للكوميديا مساحة عريضة في مسيرتها الفنية، من خلال أدوار عادية استطاعت أن تضيف لها التوهج والمتابعة, وتعاملت بذكاء شديد دون السقوط في متاهة الابتذال, فلديها قدرات علي الاضحاك بعيدا عن التسول والاسفاف ومن منطقتها الخاصة التي لم تبرحها تحت أي اغراءات.
فهل يمكننا أن نتخيلها في أدوار مختلفة عن تلك التي أسندت لها, والاجابة نعم شريطة أن تكون هناك أسباب منطقية لولوجها لهذه المنطقة, فهي بالطبيعة “ليدي” ولا يمكن أن أقحامها في أدوار لا تشبهها.
ولدت رجاء الجداوى، واسمها الحقيقي نجاة علي حسن الجداوي (6 سبتمبر 1938- 5 يوليو 2020) في محافظة الإسماعيلية، وتولت رعايتها خالتها الفنانة تحية كاريوكا، حتي بلغ عمرها 14 عاما لتعود لأحضان والدتها, تلقت تعليمها الأول فى مدارس الفرانسيسكان فى القاهرة، لم تكن طفولتها سعيدة لكنها متوازنة, فقد عرفت منذ صغرها الاعتماد علي نفسها نظرا لأنها قضت 11 عاما من طفولتها في مدرستها الداخلية التي اكسبتها الانضباط والمسئولية, ثم عملت فى قسم الترجمة بإحدى الشركات الإعلانية, وساقتها الصدفة ليتم اختيارها لتكون لفوز بلقب (سمراء النيل), والذي مهد لها دخول مسابقة (ملكة القطن المصري) التي فازت بها, تزوجت من لاعب كرة القدم حسن مختار، حارس مرمى المنتخب المصري والنادي الاسماعيلي الذي تعرفت عليه في أحد عروضها الفنية في السودان اثناء تصفيات بطولة افريقيا، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة أميرة.
أول طلة في السينما كانت قوية ومربكة عندما أسند لها المنتج رمسيس نجيب دور محوري في فيلم (دعاء الكروان) ووقوفها أمام فاتن حمامة في أغلب مشاهدها, وكان امتحانا صعبا اجتازته اجادة, ثم يسند لها أحمد بدرخان دور في فيلم (غريبة) مع نجاة الصغيرة واحمد رمزي و(اشاعة حب) مع عمر الشريف وسعاد حسني ويوسف وهبي, وتتوالي الاعمال (مخلب القط- نور الليل- الضوء الخافت- معسكر البنات) كرامة زوجتي) وفي عام 1970 تتقاسم البطولة مع ميرفت امين ومديحة كامل في (اصعب جواز), ثم تتغير طبيعة الادوار (زائر الفجر- ايام في الحلال- علي ورق سيلوفان- ازواج طائشون) شاركت عادل امام في كثير من الاعمال الفنية, وكان لها رصيد كبير في الاعمال الدرامية والاذاعية والمسرحية (عوالم خفية, الواد سيد الشغال, الزعيم, زوجة مفروسة جدا, الاسطورة, جراند اوتيل, تتح, غش الزوجية, سمارة, عدي النهار, تامر وشوقية, السندريلا, اميرة في عابدين) واعمال كثيرة تجداوزت 363 عملا فنيلا في مسيرة امتدت إلي 62 عاما, امتلكت رجاء الجداوي اداء سلس وكانت من مدرسة السهل الممتنع التي اتسمت بالرشاقة والسهولة والقدرة علي التنوع من أبسط طرق الاداء, استسهل كثير من المخرجين تسكينها في ادوار تشبها لكنها استطاعت أن تحافظ علي تألقها الدائم رغم تعاقب السنوات, ولم ينطفئ وهجها الذي كان يزداد يوما بعد يوم, كانت تعي جيدا أن البساطة هي الاناقة الكاملة, خصوصا اذا اتسمت بالاحتشام والوقار.. أخيرا مثلت رجاء الجداوي نموذجا في الشياكة والأناقة والانسانية.

التعليقات متوقفه