إردوغان يمارس الخداع فى تحويل آيا صوفيا لمسجد:الرئيس التركى يبحث عن زيادة الشعبية عبر استغلال العاطفة الدينية

231

*د. نبيل رشوان

لم تهدأ بعد أزمة التدخل التركى الفج فى ليبيا إلى جانب حكومة السراج، وتدخل روسيا بواسطة شركة أمن “فاجنر” إلى جانب المشير خليفة حفتر، وأصبح صدام تركيا مع أكبر شريك تجارى لها (روسيا) على وشك الوقوع على الأرض الليبية، إذا بالرئيس التركى يخترع بؤرة جديدة للصدام مع الشريك التجارى والحليف فى سوريا أيضاً وهى روسيا، لكن هذه المرة حول مجمع آيا صوفيا الدينى فى اسطنبول، عندما قرر الرئيس التركى تحويل المجمع الدينى الذى كان بمثابة متحف، يضم بعض لوحات آيات القرآن ولوحات للديانة المسيحية وكان مزاراً للسياح من كافة الأديان فى مدينة اسطنبول، إلى مسجد، الموقف أثار غضب العديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها روسيا واليونان اللتان تتبعان المذهب الأرثوذكسى وبعض الدول الأخرى التى تتبع المذهب الكاثوليكى وحتى البروتستانتى فى أوروبا وعلى رأسها فرنسا، التى على خلاف حاد مع تركيا فى ليبيا أيضاً.

مجمع آيا صوفيا تم إنشاؤه بأمر من الإمبراطور يوستنيان فى فترة حكم البيزنطيين فى القرن السادس الميلادى، لكن بعد فتح الأتراك على القسطنطينية (اسطنبول حالياً) على يد محمد الفاتح تم تحويل هذا المجمع إلى مسجد، وظل هكذا حتى عام 1934، عندما قام الزعيم التركى مصطفى كمال أتاتورك بتحويل مجمع آيا صوفيا إلى متحف.

 ورغم أن قرار الحكومة التركية لم يدخل حيز التنفيذ، غير أن الجانب الروسى أثار زوبعة وخاصة فى البرلمان الروسى، ووفق رأى نواب مجلس الدوما الروسى، إن هذا الأمر غاية فى الحساسية بالنسبة للمواطنين الروس، ودعوا إلى منع الضرر الناجم عن تحويل مجمع آيا صوفيا إلى مسجد تقام فيه الشعائر، فالمجمع على حد تعبير النواب يعتبر متحفا معروفا ومشهورا على مستوى العالم.

واعتبر البعض أن مجمع آيا صوفيا الذى يعتبر أحد الرموز الهامة لتوحيد الديانتين المسيحية والإسلام، فهو رمز مسيحى على أرض يقطنها مسلمون، كما أن متحف آيا صوفيا أو متحف الأديان مدرج على قوائم التراث الإنسانى لدى اليونسكو.

ما الذى جعل إردوغان يفكر فى هذه الفكرة التى ستفتح عليه أبواب جهنم من دول كثيرة حول العالم، والآن على وجه التحديد، أولاً أنه أحس أنه تورط فى بحر الرمال الليبي وهو لم ينته بعد من تورطه فى شمال سوريا حيث يخوض الأكراد حرب عصابات ضده وخاصة فى الشمال الشرقى من سوريا، أما السبب الآخر فهو أنه أراد إلهاء الشعب التركى عن أزمة اقتصادية شعر بأنها لن تنتهى قريباً، فكما هو معروف مجمع آيا صوفيا الدينى هو قضية سياسية داخل تركيا، ويعتبر جسرا يربط بين الثقافات والقارات على جانبى البوسفور.

 فى نفس الوقت يرأس إردوغان حزبا سياسيا يعتمد بالدرجة الأولى على جماعات إسلامية متشددة، وربما لإغراء هذه المجموعات بدعمه فى مغامرة ليبيا أو سوريا اتخذ القرار الخاص بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فى وقت سابق كان الرئيس إردوغان قد صرح بأن تحويل مجمع صوفيا المقدس إلى متحف كان خطأ كبير، وهذا يؤكد نيته المبيتة على تحويل متحف آيا صويا إلى مسجد.

المراقبون فى أنقرة يقولون إن تصرف إردوغان يهدف بالدرجة الأولى إلى كسب تأييد الناخبين بعد أن تدنت شعبيته وكذلك صرف الأنظار عن الأزمات الاقتصادية فى تركيا نظراً لأن شعبية حزب العدالة والتنمية قد تدنت كثيراً، وحتى دخول مغامرة ليبيا كان الهدف منها هو كسب شعبية على حساب أنه يقاتل خارج البلاد ويجب الوقوف خلفه. أما المعارضون لتحويل مجمع صوفيا المقدس لمسجد فإنهم يرون فى تصرف الرئيس التركى باتخاذ هذه الخطوة على أنها نوع من القطيعة لتركيا مع الموروث المسيحى للبلاد، واعتبره البعض امتدادا لعملية إبادة الأرمن الذى لا تعترف بها تركيا حتى الآن.

عملية تحويل مجمع صوفيا المقدس لمسجد لا يلقى ترحيباً ليس فقط من المعارضة التركية العلمانية، ولكن أيضاً من رجال الدين المسيحى والسياسيين الغربيين، فقد صرح البطريرك فارفولومى، بأنه ضد تحويل المجمع المقدس لمسجد، معتبراً أن هذا المجمع إرث لكل الإنسانية، كما توعدت دول الاتحاد الأوروبى بوقف أى مفاوضات لضم تركيا للاتحاد فى المستقبل، وأعربت الكنيسة الروسية عن رفضها لقرار القيادة التركية، وقالت إن الرئيس التركى لم يضع أى اعتبار للمسيحيين حول العالم، فيما أعرب بعض أعضاء البرلمان الروسى عن أنهم لا يعبثون بأى تراث دينى تركى على سبيل المثال موجود فى القرم التى استعادتها روسيا مؤخراً، رغم عدم اعتراف تركيا بالقرم كجزء من روسيا، وطالب النواب تركيا بالتروى والتفكير. وطالب مجلس الدوما الروسى الجمعية الوطنية التركية (البرلمان) وطالبوهم بتحكيم العقل وعدم تعريض قرار مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، الذى حول متحف آيا صوفيا إلى رمز للسلام والتعايش بين الأديان. وأعرب نواب البرلمان الروسى عن قناعتهم بأن تركيا ستتخذ الخطوات اللازمة لتفادى الخسائر التى من الممكن أن تنجم عن هكذا قرار. من جانبه وصف الزعيم القومى المتعصب ورئيس الحزب الليبرالى الديموقراطى فلاديمير جيرينوفسكى القرار بأنه ليس بالبساطة التى يراها البعض بل هو عبارة عن توجيه ضربة لروسيا زعيمة العالم المسيحى ـ على حد قوله ـ وأشار إلى أن الكاثوليك والبروتستانت يدفعوننا للدفاع عن آيا صوفيا.

مما لا شك فيه أن تركيا سوف تخسر كثيراً نتيجة هذا القرار، فناهيك عن أن متحف آيا صوفيا كان قبلة للسائحين من كل دول العالم، حيث كانوا يشاهدون الآيات القرآنية إلى جانب الإيقونات المسيحية على الحوائط فى تناغم فريد، وبالتالى كان يدر دخلاً مادياً على تركيا يقدر بعشرات الملايين من الدولارات كل عام، فإن الكثير من السياح من دول مختلفة ربما يمتنعون عن الذهاب إلى تركيا للسياحة باعتبار أن التسامح الدينى الذى كان يرمز له متحف آيا صوفيا لم يعد موجوداً واقتصر على ديانة واحدة ولم يعد من حق الديانات الأخرى الولوج إلى داخله.

بمجرد أن أصدرت المحكمة الإدارية العليا فى تركيا لقرارها يوم الجمعة الماضى 10 يوليو بأن متحف آيا صوفيا هو فى الأصل مسجد، قام الرئيس التركى مباشرة باصدار مرسوم بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد لإقامة الشعائر الدينية الإسلامية.

فيما يتعلق بروسيا الشريك الأقرب لتركيا، والتى كانت معظم الدول الأوروبية تعلق آمالاً على أن تثنى تركيا عن قرارها، فإن روسيا اعتبرت القرار شأنا تركيا داخليا، ويبدو أن القرار الروسى الرسمى كانت تحكمه عدة عوامل أولها أن العلاقات الثنائية بين البلدين التى يشوبها ما يكفى من المشاكل، وليست بحاجة لإضافة مشكلة جديدة، والأمر الثانى أن قرار وضع آيا صوفيا كان محل نقاش طويل فى البلاد منذ فترة ليست بالبعيدة، وكان البعض يتصور أن يمتد لفترة أطول، وثالثاً أن التصعيد فى العلاقات بين أنقرة وأثينا جعلت الكثيرين يعتقدون بأن الموقف التركى ليس أكثر من وسيلة للضغط على اليونان، غير أن الرئيس التركى على ما يبدو كان جاداً فى قراره، لكن الذى لا شك فيه سيكون لهذا القرار تداعياته على علاقات تركيا سواء مع روسيا أو بقية دول الاتحاد الأوروبى وقد يقضى على أخر أمل لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبى.        

لكن على ما يبدو لم يلحظ البعض الخداع الذى مارسه إردوغان على جماهير حزبه والشعب التركى فى الداخل، والذى لن يغبر من وضع آيا صوفيا قيد أنملة، وهو أن المجمع الدينى سيكون مفتوحاً أمام الجميع أى كما كان، للأتراك والأجانب، للمسلمين وغير المسلمين، أى أن آيا صوفيا سيظل كما كان متحفا لكن ربما ستقام فيه شعائر دينية إسلامية، لكنه سيظل متحفا يرتاده الجمهور بصرف النظر عن الديانة والجنسية، وهذا الأمر لم تركز عليه وسائل الإعلام التركية والعربية الموالية عن عمد. بذلك يكون إردوغان رغم ذلك قد كسب حفنة من الأصوات فى الداخل ولكنه خسر معظم دول العالم، والتفاوض على الانضمام للاتحاد الأوروبى.

التعليقات متوقفه