أشرف بيدس يكتب:محمود رضا.. حكاية فن ورقص

199

*أشرف بيدس

محمود رضا حكاية فن, رحلة من المتعة والشغف, الابحار في شرق البلاد وغربها, نزولا إلي جنوبها وصعودا إلي شمالها, يقتطف لنا الثمرات الناضجات, والنغمات الحلوات, والخطوات الرشيقات, واللفتات الملهمات, والايقاعات الحية التي تعبر وتوصف الحجر والبشر والشجر, ويقدمها لنا في صورة بديعة ساحرة  متكاملة تأخذنا معها حتي نحلق معها بعيدا بعيدا..

كلمة “راقص” في وجدان الشعب المصري مرادفها “محمود رضا”, ورغم ما ترسخ حول الكلمة, وما استتبعها من محاذير استطاع الرجل أن يمرر فنه بسهولة, أما عن التحديات فكانت مربكة ومزعجة, ولولا إيمانه بما يقدمه لاندثر هذا الفن, وكان أكبر هذه التحديات هي محاكاة المجتمعات الجامدة,  حتي استساغ الناس صعايدة وفلاحين وسواحلية تلك اللوحات ولم يستطيعوا انكارها أو التبرؤ منها, بل ازدادوا التحاما بها.

أناب عنا محمود رضا في تصدير انفعالاتنا ومشاعرنا الساكنة, ولم نكن نملك ونحن نشاهده صرامة الصمت فكانت اطرافنا تتحرك رغم عنا مع انطلاقاته يمينا ويسارا, نشاركه الرقص دون أن ندري, ونحن علي يقين بأن تلك الرقصة التي نشاهدها هي رقصتنا,. إن أكبر الاوسمة التي حصل عليها محمود رضا هي الصورة الذهنية الطيبة في قلوب الجميع وبلا استثناء.

في حالة غير متكررة اصطحب محمود رضا العديد من الأجيال في رحلة إبداعه كنموذج بطولي, ففي كل عصر يظهر نجم تلتف حوله الجماهير حتي ظهور نجم أخر وتجاوز الجماهير مرحلة عمرية معينة, لكن محمود رضا ظل ايقونة للعديد من الأجيال التي تلقفته من بعضها البعض,  لينطفئ وهج الرومبا والسامبا والتانجو والصلصا ويحتل المشهد البمبوطية والتحطيب والحجالة والزقالة من خلال ايقاعها المتدفق المبهج, ومرونتها الفائقة, ورشاقة الأداء التي كانت تبهر كل من يراها, فراشات تطوف المسرح ذهابا وأيابا تنشر الفرحة علي الحضور, أنها لم تكن عروضا راقصة, بل كانت دعوة صريحة للحياة والمتعة, قدم محمود رضا رقصاته في كل بقاع الدنيا وعلي أشهر مسارح العالم: الأولمبيا, وألبرت هول, بيتهوفن في بون, وستانسلافسكي في روسيا, كما كانت له جولات عديدة في بلدان اوربية لتعليم ونشر الفن الشعبي.

محمود رضا سفير بلا حقيبة دبلوماسية,  امتطي بساط الريح ليقدم بطاقة تعريفية عن  وطنه ومن خلال الفن في اعمال ستظل خالدة: زينة البدو, علي بابا والأربعين حرامي, رنة الخلخال, خمس فدادين, الشمعدان, بائع العرقسوس, حرامي القفة, مولد الحسين.

أول من قدم دليلا حيا وموثقا علي أن المحلية الخالصة هي العالمية بكل ما تشتمل الكلمة مع معاني وتفاسير كانت رقصات محمود رضا التي خرجت من بيئتها الضيقة وخصوصيتها المتفردة الي براح واسع, وكان يمكن أن تندثر مع هوس الافتتان بالتقاليع القادمة من البلاد التي ليس لها أصل ولا جغرافية, لكنها بقيت في ارضها ثابتة راسخة, ومرت عليها كثير من الموجات الضالة  لكنها تصدت لها, ويمكن أن نلاحظ أن هذه الرقصات لم تحتفظ فقط ببقائها, بل تطورت في الشكل وظل الجوهر أصيل وأصلي.

تقبلت الجماهير المصرية الفن الشعبي من محمود رضا وتعاطت معه, وكان هذا القبول مرده بأن ما يقدمه هو وثيق الصلة بثقافتنا, لذلك تقبلته الجماهير عن طيب خاطر, ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل جاءت محاكاة هذه الراقصات لتضبط الحركة الراقصة وتنظم خطواتها وترتب تصاعدها من خلال ايقاع موسيقي, ومع الوقت راح الأصل يأخذ من الصورة ويستعين بها في تقديم شكل فني راقي ومنضبط. وعندما نختصر مسيرة فنية عظيمة في محمود رضا, فإن الحدث يفرض علينا ذلك, ولا ننفي وجود كتيبة من الراقصين والموسيقين والمغنيين والمصممين والفنيين, وعشرات الأشخاص الذين وقفوا بجانبه .

في كل عصر, يظهر نجم يلتف حوله الشباب كنموذج بطولي, حتي يظهر نجم آخر فيخفت نجمه وينطفئ وهجه, لكن محمود رضا ظل ايقونة لعديد من الأجيال, كونه الراقص الأول والأخير, ولم يأت من يحل مكانه, لذلك ظل اسمه يتردد بصفة مستمرة,  حيث كان يعي أن تابلوهاته الراقصة هي كتاب تعريفي يعرض من خلاله سمات ثقافية وفنية عبر لوحات تكشف عن التنوع داخل البيئة الواحدة.

كانت أول طلة في السينما من خلال فيلم “احبك أنت 1949”, حيث ظهر راقص في اوبريت “الفن”, وثاني ظهور في فيلم “بابا أمين 1950” وشاركه الرقص شقيقه علي رضا في أغنية (جيت يا ربيع),  ثم فيلم “عروسة المولد1954” حيث شارك نيللي مظلوم استعراض راقص,  ثم يشارك شقيقه علي رضا الرقص في فيلم “اغلي من عينيه” من خلال أغنية (احنا ليلتنا بقت ليلتين), وتوالت الأفلام التي ظهر بها كراقص (قلوب حائرة 1956- فتي احلامي 1957- غريبة , ساحر النساء 1958, قبلني في الظلام 1959, عفريت سمارة 1959) ثم يأتي عام 1962 ليشهد انطلاقته السينمائية في أول بطولة أمام ماجدة في فيلم (اجازة نصف السنة), الذي اخرجه شقيقه علي رضا, ثم قدما الشقيقان فيلمهما الثاني (غرام في الكرنك1967), وجاء لقاءهم الثالث والاخير في فيلم (حرامي الورقة 1970), ساهم شقيقه المخرج علي رضا في تكوين شخصيته الفنية وكان مثله الأعلي الذي دعمه وسانده, ومنحه فرصة الظهور كبطل في السينما من خلال ثلاثة أفلام هي الأشهر في تاريخ السينما الاستعراضية, ساهمت أعمال محمود رضا في تغيير الصورة النمطية عن الرقص الشعبي.

نشأ محمود رضا في أسرة محافظة, والده كان يعمل أمين مكتبة جامعة القاهرة, وله مؤلفات عديدة في السيرة النبوية والكتب الدينية, لكنه كانت له ميوله فنية حيث أجاد العزف علي العود, وكان يملك صوتا جميلا,  وهذا ما  جعل الأبناء يملكون حسا فنيا, فالابنة الكبري تعزف البيانو, والأخ الأكبر يعزف الكامنجا,  فالفن ليس غريبا عن العائلة, ساعدت الرياضة علي بناء جسمه حيث مارس السباحة والجمباز, والتي اكسبته اللياقة, شغف محمود رضا بالرقص وكان أول تحدي هو عدم وجود معاهد لتعليم الرقص, فكانت مشاهدة الافلام الاجنبية خصوصا جين كيلي منفذا ساعده علي التعلم,  وكذلك  المواظبة علي مشاهدة عروض الفرق الاجنبية,  ثم جاءت فكرة تكوين فرقة (رضا)  عندما التحق بالعمل في فرقة ارجنتينية, وقرر تكوين فرقة تقدم الفلكور الشعبي وكان اللجوء لعلي رضا للاستفادة من علاقاته وخبراته, وتولد الفرقة وتقدم أول عروضها على مسرح الأزبكية، وكان عدد أعضائها 13 راقصة و13 راقصاً و13 عازفاً». تحولت الفكرة إلي الحلم, ثم حقيقة بتكوين أشهر فرقة استعراضية في الشرق, قدمت آلاف العروض الفنية وحصلت علي احتفاء وتكريم جميع بلدان العالم, ولعبت فريدة فهمي الراقصة الاولي بالفرقة وزوجة شقيقه علي رضا دورا كبيرا في نجاح الفرقة وانتشارها, حيث شاركت محمود رضا الرقص, وشكلا الاثنان أشهر ثنائي راقص في العالم.

تميز محمود رضا بجسم رشيق قادر علي تحويل الحدث الدرامي إلي رقصة معبرة,  بقدرات عالية علي التعبير الحركي بانسيابية وتلقائية, قوام ممشوق يتحرك في خطوات محسوبة بدقة ومرونة, ورغم الوسامة التي تحلي بها, لكن الموهبة كانت بوابة العبور للانطلاق, واستطاع أن ينقل الرقص الشعبي من الكباريهات السياحية إلي مسارح الدولة.

تحول اسم الشخص إلي فرقة, ومن ثم أصبح معلما فنيا وملمحا ثقافيا, ثم يصبح الاسم فيما بعد علامة مسجلة تشير إلي نوع محدد من الفنون, وأصبح “رضا” معني للرقص الشعبي, اختصر الفن في الشخص, واختصر الشخص في الفن, وذابا الاثنان حتي صار شيئا واحدا.. عملة معدنية  من الذهب الخالص يتم تداولها عربيا وعالميا  بكثير من التقدير,  وما كان يحدث ذلك في مجتمع شرقي محافظ لولا أن ما يقدم كان بحق صورة للجمال والرقي.

التعليقات متوقفه