هل تنقذ روسيا لوكاشينكو؟..اضطرابات بيلاروسيا.. زوبعة أم ثورة ملونة جديدة

194

*د. نبيل رشوان
يبدو أن مركب الرئيس البيلاروسى، تتقاذفه أمواج الاحتجاجات بشدة، وكما توقعت فى المقال السابق بعد الانتخابات مباشرة، أن السلوكيات تشير إلى ثورة ملونة جديدة فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق، خاصة بعد أن اخترع المعارضون للرئيس لوكاشينكو رمزًا لهم وهو عبارة عن شريط أبيض، كانوا حريصين على ربطه حول معصمهم، وتلقوا ضربة قوات الأمن حتى سالت الدماء التى تم تصويرها وطافت العالم لتظهر مدى التعامل العنيف من قبل السلطات مع المتظاهرين السلميين، وكالعادة لابد من ضحية وبطل يقتله الأمن ويصبح بطلاً والأدهى أن يقوم سفراء الدول المعتمدين لدى مينسك بوضع أكاليل الزهور مكان سقوط (البطل) ضحية قوات الأمن ـ اكتملت الصور المطلوبة الباقى مسألة تفاصيل ـ.
لكن يبدو أن الرئيس لوكاشينكو أدرك الفخ الذى نصب له، فكانت التعليمات لقوات الأمن بعدم التعرض للمحتجين الذين بدأوا فى تكوين سلاسل بشرية وخاصة من النساء اللاتى ارتدين فساتين بيضاء للتماشى مع الشريط الأبيض شعار المرشحة المنافسة للرئيس سفيتلانا تيخونوفسكايا، وهن يحملن الزهور، التى وزعوا معظمها على رجال الأمن الذين لم يتعرضوا للمتظاهرين ووقفن للالتقاط الصور معهم ورفعوا شعار “أنتم هنا لحمايتنا وليس لضربنا” موجهن خطابهن لرجال الأمن. وبدأت الميادين تمتلئ بالمتظاهرين من الرجال والنساء وتجمعوا فى ميدان الاستقلال، وهو ما يذكرنى بثورة البرتقالى بأوكرانيا حيث كان التجمع فى ميدان يحمل نفس الاسم.
منذ يوم السبت 15 أغسطس، بدأت الأوراق فى بيلاروسيا تختلط،، فقد أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات النتائج النهائية والتى تشير إلى فوز الرئيس الحالى لوكاشينكو بنسبة 80% من أصوات الناخبين، وتيخونوفسكايا المنافسة والموجودة حالياً فى ليتوانيا بنسبة 10%، من جانبها صرحت المنافسة مدفوعة بالتواجد الكثيف من المتظاهرين الموجودين فى الشارع والعمال المضربين فى المصانع، بأنها لا تعترف بهذه النتيجة وأنها هى الفائزة فى الانتخابات.
قام بتهنئة الرئيس البيلاروسى بالفوز عدد من رؤساء دول الاتحاد السوفيتى السابق وبعض دول العالم أولهم الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الصينى ورئيس كازاخستان ورئيس مولدوفا ورئيس أذربيجان.
هذا ما يحدث على الأرض فى الوقت الحالى، ولكننا سنناقش فى هذا المقال التداعيات فى حال سقوط الرئيس البيلاروسى لوكاشينكو وفى حالة بقائه، فى حال سقوط الرئيس الخاسر الأكبر هو روسيا بلا شك، فهو حليف قديم لروسيا، وللحقيقة لم تبخل روسيا عليه بأى شئ على شعب شقيق، بل أن روسيا خصصت محلات لبيع منتجات بيلاروسيا من الصناعات الخفيفة وهى الصناعات الباقية منذ الاتحاد السوفيتى، بالإضافة إلى أن روسيا التى هى مصدر المحروقات الذى لا ينضب وبأسعار تفضيلية، لكن فى السنوات الأخيرة أو بالأحرى هذا العام مع انخفاض أسعار النفط والغاز وجائحة كورونا لم تكن الأمور بين الحليفين على مايرام، فقد ساءت الأمور الاقتصادية فى روسيا مع تهاوى أسعار النفط والغاز، ولم يعد لديها ما تمنحه للحليف، فما كان من الرئيس البيلاوروسى إلا أن لجأ لأذربيجان والولايات المتحدة لشراء النفط، وأعلن ذلك صراحة فى عز الأزمة بأنه سيعود كحليف لروسيا بعد الأزمة، لكن شراء النفط سيكون من أماكن مختلفة ولن يقتصر على روسيا.
والمدهش ولسوء حظ روسيا أن توقع الولايات المتحدة اتفاق أمنى مع بولندا فى نفس اليوم الذى تجمعت فيه الجماهير التى تريد إسقاط الرئيس، حيث سيتمركز فى بولندا خمسة آلاف جندى أمريكى وتنصب صواريخ وقواعد طائرات أمريكية مسيرة. من المعروف أن روسيا لها ثلاث قواعد عسكرية فى بيلاروسيا، وهى فى أمس الحاجة لوجودها بعد الاتفاق الأمريكى ـ البولندى.
هذا من جانب الولايات المتحدة، أما الاتحاد الأوروبى فقد رفضت 27 دولة من دول الاتحاد الاعتراف بنتيجة الانتخابات، وطالبوا بفرض عقوبات على بيلاروسيا وعلى المتورطين فى استعمال العنف مع المتظاهرين، وأمام القسوة الغربية مع الرئيس لوكاشينكو، أعلن أنه سيقوم بالاتحاد مع روسيا الذى رفضه قبيل الانتخابات، وبدأ يتحدث عن اتفاق أمنى له مع روسيا، وقال إن روسيا ستقوم بالدفاع عن بيلاروسيا عند أول تهديد عسكرى من الخارج تتعرض له بلاده، صرح الرئيس لوكاشينكو بذلك فى اجتماع بمركز الإدارة الاستراتيجية بوزارة الدفاع. وينصح المحلل السياسى سيرجى ماركوف الحكومة الروسية بألا تستهين بأزمة بيلاروسيا ويعتبر أن أزمة مينسك وضعت السياسة الروسية فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق على المحك، ولا يستبعد انتشار العدوى إلى دول أخرى منها طاجيكستان وتركمنستان وكازاخستان بل وروسيا نفسها، وينصح بالمحافظة على الرئيس لوكاشينكو بأى ثمن وألا يسمح الرئيس بوتين بتكرار السيناريو الأوكرانى عندما استولى القوميون الأوكران على السلطة وطردوا الرئيس يانوكوفيتش الروسى الهوى، ويحذر فى النهاية من سيناريو فنرويلا، حيث سيبقى رئيسان للبلاد أحدهما سفيتلانا تيخونوفسكايا تقيم فى ليتوانيا والآخر فى السلطة.
وسواء كان السيناريو الأول هو الذى سيتحقق أو الثانى لم يعد لدى روسيا من الناحية الاقتصادية الكثير لتقديمه للرئيس لوكاشينكو لإنقاذه.
أما فى حالة بقاء الرئيس لوكاشينكو فى السلطة، ومرور الأزمة دون أن يخسر منصبه بمساعدة روسية، ففى هذه الحالة سيكون أسيرا لروسيا التى ستفرض عليه اتفاقا اتحاديا وسيدخل فى اتحاد مع روسيا وحينها وفق مراقبون سيتحول من رئيس لدولة مستقلة ذات سيادة إلى مجرد حاكم إقليم داخل روسيا، كما أنه سيبقى محاصراً من الاتحاد الأوروبى وسيعتمد أكثر من أى وقت مضى على المساعدات الروسية التى لن تقدم بدون انتقاص من السيادة فى أحسن الأحوال، كما أن روسيا خسرت الكثير من الناحية الجيوسياسية بداية من جورجيا فى 2008، مروراً باوكرانيا عام 2014 وهاهى أرمينيا حليف روسيا القديم تحظر تقريباً التعامل باللغات الأجنبية فى التليفزيون بما فى ذلك اللغة الروسية، وربما يكون السبب الموقف الروسى من الخلاف حول ناجورنوكاراباخ الذى لم تتدخل فيه روسيا كما يجب مراعاة لعلاقتها بتركيا التى تدعم وتؤيد أذربيجان فى هذا النزاع، وروسيا لا تريد أن تخسر بيلاروسيا ذات الأهمية الجيوسياسية بالنسبة لها.
ظهر لأول مرة الرئيس البيلاروسى لوكاشينكو فى ميدان الاستقلال يوم 16 أغسطس، وسط حشد من أنصاره وذكرهم بفترة التسعينيات عندما وصل إلى السلطة، عندما كانت المصانع معرضة للخصخصة والإغلاق ومتوقفة باختصار تحدث عن إنجازاته وأفضاله فى أنقاذ شعب بيلاروسيا من الضياع والفقر والجوع، وبينما تحدث الرئيس أمام جماهيره ومؤيديه فى ميدان الاستقلال الذى كان مكان حشد المعارضين أمس، ذهب المعارضون للرئيس إلى ميدان النصب التذكارى للمدينة مينسك، وتجمعوا هناك بعشرات الآلاف بل وصل عددهم مع غروب الشمس لأكثر من 300 ألف وهم يقسمون أنه لا مكان للوكاشينكو فى الحياة السياسية، بعد الانتخابات التى اعتبروه زورها. على أى حال هناك دعوات للحوار لكن على أى أساس لا أحد يعرف، فالمعارضة ترفض الاعتراف بالانتخابات، ومن ناحية أخرى تطالب بالإفراج عن من أسموهم بالمعتقلين السياسيين ومنهم زوج السيدة تيخونوفسكايا ورجل البنوك باباريكو الذى كان مرشحاً وتم القبض عليه، وبالطبع إعادة الانتخابات لكن بدون لوكاشينكو.
لم ينس الرئيس فى كلمته أمام أنصاره، أن يعطى بعداً دولياً لوجوده، وهو منع قوات الناتو من أن تتطأ أرض بيلاروسيا، قائلاً: إن هذه القوات على مسيرة 15 دقيقة من حدود بلاده فى بولندا وليتوانيا. حيث تقيم الآن منافسته تيخونوفسكايا، لكنه اتهم أحد المرشحين الذين لم يمكنهم من الترشح وهو السيد فاليرى تسيبكالو والذى فر إلى موسكو بالرشوة، وكان من الممكن أن يكون تسيبكالو أحد أطراف النزاع المحايدين على الأقل بحكم تواجده فى العاصمة الروسية، ففر إلى كييف بأوكرانيا وانضم إلى المعسكر المضاد.
الموقف يزداد تعقيداً، وإذا كما قلت من قبل، لم يتم الإسراع باحتواء الأزمة، فإن حالة الاستقطاب من الخارج والداخل قد تطيح بالرئيس البيلاروسى، خاصة بعد أن بدأ بعض الموالين للرئيس بالاستقالة سواء من العاملين فى الإعلام أو السلك الدبلوماسى، حيث استقال سفيران حتى الآن، وفى اعتقادى أن أيام الرئيس لوكاشينكو أصبحت معدودة بعد الزخم الجماهيرى الذى كان فى الشارع يوم الأحد 16/8. وهناك احتمال أن تفعّل روسيا اتفاقية الأمن الجماعى الموقعة بين دول الاتحاد السوفيتى السابق وتتدخل عسكرياً لإنقاذ الرئيس البيلاروسى أو على الأقل تجد بديلا لا يطيح بالمصالح الروسية لصالح الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو وتضمن سلامة لوكاشينكو، خاصة وأن عدد سكان بيلاروسيا صغير لم يصل إلى 10 ملايين نسمة ومساحتها صغيرة ويستطيع الناتو والاتحاد الأوروبى امتصاصها بسرعة شديدة.
باختصار ورغم أى شىء، إلا أن هناك محاولات تبذل سواء فى الغرب أو فى روسيا لإنقاذ الموقف الصعب الذى وجد الرئيس لوكاشينكو نفسه فيه، لأن من شاهد ميادين بيلاروسيا يوم الأحد الماضى، يدرك أن ثورة ملونة مكتملة الأركان قد حدثت، وحتى لو تمكن الرئيس من إنقاذ نفسه فلن يستطيع أن يحكم البلاد، حيث ستدخل البلاد فى إضرابات وعصيان مدنى، وستتدهور الأوضاع الاقتصادية مما سيضطر معه المقربون من لوكاشينكو للتخلص منه. المدهش فى فعاليات يوم الأحد 16 أغسطس هو أننى لم أشاهد أى رجل شرطة على مدار متابعتى للأحداث، وهو ما يعنى أحد احتمالين، إما أن الرئيس لا يريد التورط فى أعمال عنف جديدة تدينه بعد تلك التى حدثت عقب التصويت مع المتظاهرين أو أن أجهزة الأمن باختلاف أنواعها لم تعد تنفذ أوامر الرئيس وربما انحازت للجماهير بسلبيتها.
من المتوقع أن تشهد بيلاروسيا أحداث درامية الأسبوع المقبل، فروسيا لم تفصح بعد عن موقفها للنهاية، رغم الدعم الروسى الواضح للرئيس لوكاشينكو الذى يهاتف الرئيس بوتين تقريباً يومياً، والاتحاد الأوروبى أعلنت 27 دولة عن عقوبات، وعرض رئيس ليتوانيا إعادة الانتخابات، وهو ما وصفه الرئيس لوكاشينكو بأنه يعنى نهاية بيلاروسيا كدولة، أما الولايات المتحدة وعلى لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو فقد رحبت بخطوة الإفراج عن من اعتقلوا فى المظاهرات إلا أن الوزير استدرك وقال، لكن هذا غير كاف، لم يتبلور الموقف الأمريكة للنهاية بعد. على أى حال نحن فى انتظار ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات، وإن كان هناك 2 سيناريو من الممكن تنفيذ أحدهما الأول: استقالة الرئيس لوكاشينكو من منصبه وتشكيل حكومة جديدة ومن ثم انتخابات جديدة أما السيناريو الثانى: هو انحياز الجيش والشرطة للمتظاهرين وفى هذه الحالة سيتم تشكيل حكومة جديدة وانتخابات جديدة، وفق أحد المحللين الرئيس لوكاشينكو يحاول أن يبدو وكأنه لا يحدث شىء، وفى واقع الأمر هو يتفاوض حول مستقبله مع المحيطين به، وبعض اللاعبين من الخارج، لكن الخبراء يحاولون الآن التنبؤ بمن هو الرئيس القادم لبيلاروسيا، وما إذا سيكون موال لروسيا أو للغرب، فى رأى بعض الخبراء أن الشخصية الأبرز لتولى السلطة فى بيلاروسيا قد يكون رئيس مجلس إدارة بنك الغاز الصناعى فيكتور باباريكو المعتقل حالياً بأوامر من الرئيس لوكاشينكو حتى لا يخوض الانتخابات، فقد أشارت استطلاعات الرأى أنه يحظى بتأييد 50% من الناخبين.
كلمة أخيرة
ربما ورغم حالة النشوة التى يعيشها شباب بيلاروسيا وهو يحاول إقالة الرئيس لوكاشينكو، ربما يمر أمام عينيه طيف أوكرانيا التى فقدت جزءا من أراضيها بعد ثورة البرتقالى، أو جورجيا التى فقدت أيضاً جزءا من أراضيها بعد ثورة الزهور، أو قيرجيزستان التى لم تستقر حتى الآن، وتدهور مستوى المعيشة فى هذه الدول بدرجة كبيرة، فهل شعب بيلاروسيا مستعد لتحمل أعباء أن يبدأ من جديد فى دولة مواردها محدودة للغاية وتعتمد على روسيا فى الحصول على المحروقات المدعومة، وفى تجارتها الخارجية على السوق الروسية، غداً تذهب “السكرة وتاتى الفكرة” ويترحمون على أيام لوكاشينكو. سنرى.

التعليقات متوقفه