في ذكرى رحيله..نجيب محفوظ عصر من الابداع والتسامح

- تحولت الذات البدعة عند أديب نوبل إلى مرآة عاكسة لبنية المجتمع..- عرف العالم قيمة رواياته منذ خمسينيات القرن الماضي

475

بقلم عيد عبدالحليم

إذا كانت الأمم تقاس بأيامها المجيدة فإن كل لحظة من عمر نجيب محفوظ تساوى طاقة نور للوطن.
وكل لحظة تقع عين القارئ فيها على عالمه الروائى تعد تكريما لنا قبل أن تكون تكريما له.
وإذا كان حصوله على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988 يعد الحدث الأكبر فى الثقافة المصرية المعاصرة، فإن ذلك يدعونا للتساؤل عن كيفية الاحتفال بهذه الطاقة التى طالت سماء التألق.
هل نفعل معه مثلما فعلت فرنسا مع << فيكتورهوجو>> عند بلوغه الثمانين حيث احتفلت بعيد ميلاده كأنه عيد من أعيادها القومية فأقيمت أقواس النصر فى شارع <<إيليو>> بباريس وهو نفس الشارع الذى عاش فيه<< هوجو>> وألغيت الدراسة – يومها – فى الشارع والجامعات .
وفى اليوم التالى دخل << هوجو >> المجلس التشريعى الفرنسى، فوقف أعضاؤه تقديرا واحتراما له، وأكد رئيس المجلس – حينذاك – << ليوتس >> على القيمة الإبداعية << لهوجو >> قائلا :
” لنقف جميعا فالعبقرى هوجو بيننا .. وهذا يكفى ”
ثم أعلنت الحكومة الفرنسية تغيير اسم الشارع الذى يسكن فيه ” هوجو ” من شارع إيليو إلى “شارع هوجو”.
هكذا تحتفل الأمم بمبدعيها الذين يمثلون ضميرها الحى ومخيلتها الوثابة ويشاركون – بفعالية – فى حراكه الاجتماعى والعقلى فى إنتاج نصوص تواكب التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بحيث تتحول الكتابة إلى فعل وجودىّ يتسم بخلق عوالم جديدة قدر وقوفها الراصد للمتغيرات الواقعية .
وقد كان ” محفوظ ” من هذا النوع الذى أهلته الظروف لأن يقف فى منطقة إبداعية يمكن أن أسميها بـ” فلسفة الوجود ودراما الشخصية ” حيث تتحول الذات المبدعة إلى مرآة عاكسة لبنية المجتمع تغوص فى تفاصيله المكانية والزمانية لتعيد صياغة أبعاده الدرامية عبر لغة تنتج من الأبعاد الشعبية لهذا المجتمع، فتصبح لغة السرد فعلا موازيا للغة الشارع، ومن هنا ينفتح فضاء الدلالة، ومن هنا تجئ رحابة المعنى.
” محفوظ ” ليس مجرد روائى أضاف إلى بنية السرد العربى ونقل هذا الفن الحكائى من مرحلة الرواية التاريخية التى كتبها أمثال “جورجى زيدان” و”محمد المويلحى” وغيرهما إلى الرواية الواقعية فقط، بل هو ابن حقيقى لتراث الشعب المصرى وحضارته العريقة، استطاع فى إبداعاته أن يعبر عن كل القيم الأصيلة والجوهرية فى الشخصية المصرية .
هو “رجل الساعة” على حد تعبير صديقه الراحل “محمد عفيفى” الذى واجه الزمن بتقلباته العاصفة بـ “نظام زمانى ومكانى صارم” حسب لكل لحظة قيمتها، عرف متى يكتب ومتى يتوقف، ومتى يتأمل.
يقول ” عفيفى ” :
( كان على الدوام يثير غيظى، وكان فى بعض الأحيان يثير رثائى، واكنه لم يعد فى النهاية يثير شيئا سوى حسدى ! إذ رأيت مؤلفات الرجل ترتفع وترتفع حتى توشك أن تنطح السقف، فأدركت قيمة النظام والمثابرة بالنسبة للرجل الذى يريد أن يكون كاتبا كبيرا ) .
وأعتقد أن ” نجيب ومحفوظ ” تميز بصفتين أساسيتين تمكنتا من شخصيته وهما : الأولى : أنه صادق فيما يكتب، ولأنه لا يكتب إلا عما يعرف فجاءت كتابته عن الحارة المصرية مستوعبة لعناصرها التاريخية والاجتماعية، تماما مثلما فعل “ماركيز ” مع حوارى وشوارع أمريكا الجنوبية .
أما الصفة الثانية: فهى ذات بعد إنسانى تتعلق بذاته وهى كونه أديبا بلا خصومات، ربما جاءت الخصومة من البعض، ولكنه لم يحمل ضغينة لأحد، بل كرس كل همه وجهده للكتابة والإبداع فقط فلم نره يشغل نفسه بالكتابة ضد هذا أو ذاك .. وتلك طبيعة الكبار.
وهذا ما يقول عنه الكاتب الكبير رجاء النقاش: ( لقد كان التعامل مع نجيب محفوظ يكشف لى دائما عن فضائله الكثيرة ومنها الأمانة والصدق مع النفس ومع الآخرين، والتواضع والتسامح وسعة الصدر وعدم اللهفة على أى مكسب من أى نوع والرفض الكامل لأن يربط بين ما يكتبه وبين عملية النشر .. أى أنه منذ بدايته لا يكتب بناء على طلب من الخارج بل يكتب ما يحس به وما يعبر عن تجربته فإن لم يجد, توقف عن الكتابة ) .
وأرى أن هذه الصفات التى تلازمت وتوافقت جعلت من شخصية ” محفوظ ” شخصية ناجحة اجتماعيا وثقافيا، جعلت منه “هرما” على حد تعبير” يحيى حقى”
وهذا ما يؤكده ” نجيب محفوظ ” فى حواراته مع عبد العال الحمامصى عام 1982 حيث يقول :-
(أفضل ما يستفيد منه الكاتب بالطبع هى التجارب التى عايشها بنفسه .. لأنها تتيح له ميزة الصدق مع نفسه ومع تجربته الفنية .. ولكن الكاتب لا يمكن ان يقتصر عالمه الفنى على مجرد ما عاشه هو .. إذا لابد أن يثرى رؤيته بتجارب الآخرين ومعايشتها .. وبالخيال .. ولكنه الخيال الذى يعتمد على شئ من الحقيقة .. وإلا من الأفضل أن يتجنب الكاتب فى موضوع يجهله.. لهذا أفضل ألا أكتب عن الحرب مثلا .. عن أن أكتب عنها من مجرد الخيال .. وما قلته هنا يمكن أن ينطبق على أعمالى الروائية ) .
حكاية نوبل
لم تكن علاقة نجيب محفوظ بجائزة ” نوبل ” هى عام فوزه بها عام 1988 بل سبقتها إرهاصات مصرية رشحت الرجل للحصول على الجائزة وإن جاءت فى شكل مقالات نقدية وتنبوءات فنية كما حدث مع عميد الأدب العربى د. طه حسين حين قرأ له رواية ” بين القصرين ” فاكد أن محفوظ أقدر الأدباء العرب للحصول على الجائزة، وبعد نبوءة طه حسين بما يقرب من ثلاثين عاما، وتحديدا فى عام 1982 ترددت الشائعات عن ترشيح أديبنا للجائزة، وحوارات ” محفوظ ” فى هذه السنة تدل على ذلك، رغم أنه نفى علمه بهذا الأمر، فنراه يقول فى أحد حواراته لمجلة ” أكتوبر ” فى يوليو 1982:
” إن الخبر لا أساس له من الصحة، ولقد أخبرنى أستاذنا توفيق الحكيم أمام عدم علمى بأى شئ يتعلق بهذا الترشيح، بأنه عندما يرشح أديب لجائزة نوبل، فإنهم يطلبون من سفارة بلده فى عاصمة السويد أن تخطره بذلك وأن تطلب منه أن يقدم بعض المعلومات عن شخصه وإنتاجه، وأنا لم يتصل بى أحد فى هذا الشأن لا من سفارتنا ولا من جهة أخرى .. وليس من المعقول أن يرشح أديب لجائزة مثل هذه بغير علمه وبهذا يمكن القول مرة أخرى بأن الخبر الذى قرأناه كان غير صحيح ” .
وأرجع ” محفوظ ” فى هذا الحوار مع الكاتب عبد العال الحمامصى إلى أن السبب يرجع فى تأخر حصول أحد الأدباء العرب على مثل هذه الجائزة العالمية يرجع إلى ضعف حركة الترجمة فى الوطن العربى، رغم وجود مؤسسات كبرى للنشر إلا أنها- للأسف الشديد –لم تقم بدورها المنوط بها أمثال هيئة الكتاب، رغم وجود قامات إبداعية كبرى كتوفيق الحكيم ويحيى حقى ويوسف إدريس .
وظل ” محفوظ ” على قوائم الترشيح أو قريبا منها لسنوات طويلة هو و “الحكيم” و ” يوسف إدريس” الذى كان الأقرب للحصول عليها عام 1985 لولا أن اللجنة اختارت الروائى الفرنسى المغمور ” كلود سيمون ” بحجة أن الجائزة لم يحصل عليها فرنسى منذ عشرين عاما بعد رفض ” جون بول سارتر ” لها عام 1964، وجاء هذا فى لعبة سياسية واضحة المعالم، رغم أن كل المؤشرات – فى ذلك الوقت – كانت تؤكد أن ” إدريس ” هو الأقدر على الحصول عليها، ولكن أثبتت التجربة أن القيمة الادبية ليست هى الفيصل فى نمط الاحتيار .
وهنا لنا أن نتساءل كيف تم ترشيح نجيب محفوظ للجائزة فى عام 1988 ؟!
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نشير إلى أن بعض المستشرقين الأجانب – كان – منهم بعض المنصفين الذين اهتموا بترجمة النذر اليسير من الأدب العربى، فترجمت بعض أعمال يحيى حقى ويوسف إدريس، أما توفيق الحكيم فقد اهتم بترجمة كتبه بنفسه وعرفت مؤلفاته طريقها للقارئ الغربى منذ العشرينيات من القرن الماضى، بالإضافة إلى ترجمة بعض أعماله على يد هؤلاء المستشرقين الذين ترجموها بغرض الدرس الأكاديمى فى الجامعات الأوربية .
ومن هؤلاء الذين اهتموا بالرواية العربية وبأدب نجيب محفوظ – تحديدا – المستشرق ” شيفتيل ” رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة ليذر البريطانية، والذى كان ضلعا أساسيا فى ترشيحه للجائزة على اعتبار أنه أول أديب عربى من الممكن أن يحصل عليها.
وبالفعل كتب ” شيفتيل ” خطابا إلى الأكاديمية السويدية فى 10 فبراير 1988 يرشح فيها “محفوظ “، وبعدها بأسبوع أرسل ” شيفتيل ” خطابا لمحفوظ فى يوم 17 فبراير 1988 يخبره فيه بنبأ الترشيح .. وهذا نصه :
الأستاذ نجيب محفوظ المحترم
تحية طيبة وبعد،،
أتشرف بإرسال هذه السطور القليلة مقدما نفسى لسيادتكم وإخباركم بأن الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل أرسلت إلىّ أخيرا خطابا طلبت فيه أن أوافيهم باسم أديب يرشح للجائزة المذكورة أعلاه للسنة الجارية.
فقد سررت جدا بهذه الفرصة الذهبية لإلفات نظر الأكاديمية إلى أعمالكم الادبية التى يشار إليها بالبنان لأننى لم آلف أحدا أجدر وأحق من سيادتكم بهذه الجائزة.
فلذا هرعت إلى إرسال توصيتى المتواضعة مؤكدا أن منح سيادتكم جائزة نوبل يعنى إعطاء القوس باريها نظرا لما وضعتموه من مؤلفات تعتبر من أرسخ دعائم وركائز الأدب العربى المعاصر .
فلا تؤاخذنى على عدم الاستشارة بسيادتكم قبل إرسال التوصية وذلكم لقصر الوقت، فأتمنى لسيادتكم أن تفوزوا بهذه الجائزة الرفيعة كى تحظى ثروتكم الأدبية بالاعتراف الدولى الذى تستحقه .
وأخيرا فاقبلوا تمنياتنا القلبية مبتهلين من الله تعالى أن يعطيكم الحول والقوة والعافية للمضى فى إجزال العطاء الأدبى لكل الناطقين بالضاد.
المخلص د. أ.شيفتيل
رئيس قسم الدراسات العربية الحديثة
جامعة ليذر- بريطانيا

وبتاريخ 25 فبراير 1988 نجد خطابا يرد فيه ” محفوظ ” على رسالة ” شيفتيل ” هذا نصه :
الأستاذ الدكتور شيفتيل
تحية طيبة وبعد،،
فقد تلقيت رسالتك الكريمة التى تنبئنى فيها بتفضلكم بتزكيتى لدى لجنة نوبل بالسعادة والشكر والتقدير، ومهما تكن النتيجة النهائية لمسعاكم الحميد فحسبى أننى فزت بتقدير أستاذ كبير فاضل مثلكم وهذا تقدير من ناحيته الأدبية لا يقل عن الجائزة بحال.
أكرر الشكر يا سيدى ولك منى أطيب تحية
المخلص
نجيب محفوظ
صداقات عالمية
أحيانا ما يرتبط الأديب بصداقات مع سياسيين كبار حدث هذا عالميا مع أسطورة الرواية العالمية ” جابريل جارثيا ماركيز “والزعيم الكوبى ” فيدل كاسترو” واللذين امتدت صداقتهما لأكثر من خمسين عاما وأثر كلاهما تأثيرا كبيرا لدرجة أن الأخير كتب مؤلفا كاملا يروى فيه حكاية هذه الصداقة الروحية.
وبالمثل فقد ارتبط ” نجيب محفوظ ” مع بعض الزعماء العرب والعالميين بصداقات تميزت بالاحترام المتبادل القائم على فهم عميق من الطرفين لكل منهما، أمثال المرحوم الشيخ” زايد بن سلطان آل نهيان” أمير دولة الإمارات المتحدة، والمرحوم الأمير “جابر آل صباح أمير الكويت”، والرئيس الفرنسى الراحل ” فرانسوا ميتران ” والرئيس الفرنسى “جاك شيراك ” والذى كان دائما متابعا لأعمال وأخبار ” محفوظ “، وما بين أيدينا من رسائل متبادلة بينهما تدل على مدى تقدير كل منهما للآخر.
نذكر منها رسالة بعثها ” شيراك ” إلى ” محفوظ ” فى يناير عام 2003 يطمئن فيها على صحته، بعد أن تعرض الأخير لأزمة صحية نقل على إثرها إلى ” مستشفى الشرطة “.
وهذا نص رسالة ” شيراك ” :
عزيزى نجيب محفوظ :
علمت بتأثر بالغ نبأ دخولكم المستشفى منذ عدة أيام ومع أن الأنباء التى تصلنى مطمئنة لحسن الحظ، إلا أننى أود أن أعبر عن تمنياتى الحارة بسرعة التعافى .
إنكم على علم بالإعجاب الشديد الذى تشيره أعمالكم الفنية والتزامكم فى فرنسا والعالم أجمع.
وعليه أرجو سيادتكم، بكل المحبة والصداقة أن تتفضلوا بقبول فائق تقديرى واحترامى.
جاك شيراك

وبعد ان تماثل ” محفوظ ” للشفاء – بعد هذه الوعكة – أرسل خطابا إلى ” شيراك ” هذا نصه :
فخامة الرئيس جاك شيراك
رئيس الجمهورية الفرنسية
تحية ومودة
رسالتكم الكريمة تأثرت لما حوته من اهتمام شخصى بعد الأزمة الصحية التى مررت بها مؤخرا، ولما تمثله من معان جليلة تنبثق من بلدكم العظيم، ودوره الرائد فى الثقافة الإنسانية، وعلاقته الوثيقة بحضارتنا المصرية ويكفى أن أشير إلى فضل العالم جان فرانسوا شامبليون فى فك أسرار لغتنا المصرية القديمة، أول لغة عرفها العالم الإنسانى، ولولا جهود شامبليون لكانت آثارنا وشواهد حضارتنا كالألغاز .
إننى أتمنى دوام الازدهار والرفعة للشعب الفرنسى الصديق ومواصلة دوره فى خدمة الثقافة الإنسانية .
مع عميق احترامى،
نجيب محفوظ
26/1/2003

التعليقات متوقفه