العقوبات الأمريكية علي إيران …….حلبة للتصارع الأمريكي –الأوربي

55

تعد العقوبات الاقتصادية إحدى أدوات السياسة الاقتصادية الدولية، وأحد أهم أنواع السياسات الفاعلة التي تلجأ إليها الدول والمنظمات الدولية، التي تندرج في إطار السياسات الدولية الردعية، الهادفة إلى تحقيق أهداف استراتيجية سياسية واقتصادية واجتماعية معينة.
شهدت العقود الستة الأخيرة الممارسات المختلفة التي باشرها مجلس الأمن ضد روديسيا والبرتغال وجنوب إفريقيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ردا على الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي بشكل عام من هذه الدول، ثم توسع لاحقا في ذلك النهج العقابي ضد عدد كبير من الدول منذ سقوط الاتحاد السوفيتي واستشراء الحروب الأهلية كالنار في الهشيم في دول عديدة، في صدارتها دول إفريقية مثل الصومال وسيراليون ورواندا وليبريا وليبيا وغيرها، في محاولة حثيثة من مجلس الأمن لإنهاء هذه الصراعات المسلحة المتفاقمة.
تعد العقوبات الاقتصادية أكثر أساليب الردع انتشارا وتأثيرا في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث تمثل علاجا صامتا وقاتلا في الوقت نفسه بوسائل أقل عنفا، كما أثبتت التجربة أنها المعادل الاقتصادي لما يسمى في الحروب بالقصف الشامل، وهي من الأساليب التي انتهجتها كل من المنظمات الدولية والدول أثناء الحرب الباردة وازداد استعمالها أكثر مع نهاية الحرب الباردة، حيث فرضتها الأمم المتحدة مرتين فقط، ضد روديسيا عام 1966، وجنوب إفريقيا عام 1977، ليتصاعد استخدامها كإستراتيجية متكررة ابتداء من 1990 من خلال فرضها من قبل الأمم المتحدة أكثر من 12 مرة خلال الفترة بين عامي 1990 و2002، فضلا عن أن الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة فرضت العقوبات الاقتصادية سواء الانفرادية والثنائية والإقليمية.
جلي أن العقوبات الاقتصادية إجراء اقتصادي يهدف إلى التأثير على إرادة دولة لحثها على احترام قواعد القانون الدولي، وأن العقوبات الاقتصادية لا تستهدف حفظ وحماية القانون، لكن حفظ وحماية السلام الذي لا يتفق بالضرورة في كل الأحوال مع القانون، لذا فإن العقوبة الاقتصادية هي وسيلة ضغط إيجابية أو سلبية، تهدف إلى تغيير السلوك السياسي للدولة المعاقبة، وهذه العقوبة يمكن أن تتدرج من التهديد البسيط إلى مقاطعة كلية أو شاملة للعلاقات الاقتصادية بين المعاقِب والمستهدَف.
لجأت كل من الدول فرادى أو تكتلات، إضافة إلى المنظمات الدولية، إلى فرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي تنتهك مبادئ القانون الدولي، ورغم تعدد الأهداف التي تسعى من خلالها الدول التي تلجأ لفرض العقوبات، فإن الباعث الرئيسي من استخدام هذه الآلية هو ردع وإجبار الدولة المستهدَفة بالعقوبات إلى العودة إلى جادة الصواب، وانتهاج النهج القانوني الصحيح في علاقاتها الدولية، وردعها عن التمادي في إلحاق الضرر بغيرها من الدول والشعوب.
في سياق العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران و التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن يعدي مجلس الأمن فرضها علي إيران ، بعد أن كان المجلس قد رفعها عنها في عام 2015 بعد إبرام الاتفاق النووي ( 5+1 ) ، فإن حداثة الموقف الهجومي الأمريكي تتمثل ، في الواقع ، في تصريح الرئيس الأمريكي أنه لن يتردد في فرض عواقب اقتصادية على جميع الدول التي لن تحترم الإملاءات الأمريكية.
على الرغم من التصريحات العديدة لرؤساء الدول الأوروبية والأمين العام للأمم المتحدة ، وعلى الرغم من الوعود التي تم التعهد بها بوجوب معالجة الحل ، فإن مساحة مناورة القادة الأوروبيين منذ الانسحاب الانفرادي للولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق المشار إليه عام 2018 لا تزال محدودة للغاية حتى الآن.
لا تقتصر الهوة العميقة بين الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد الأوربي على الضعف الجوهري الاقتصادي للاتحاد الأوروبي مقارنة بالولايات المتحدة ، ولكنه أيضًا نتيجة للسلاح الأمريكي الهائل الذي يمثل تجاوز القانون الأمريكي للحدود الإقليمية الأمريكية ، فبفضل هذه الأداة ، تمكنت الولايات المتحدة من جعل نظامها القانوني سلاحًا اقتصاديًا قويًا، و بعبارة أخرى ، تتمتع وزارة العدل الأمريكية بصلاحية مقاضاة أي شركة أجنبية لها علاقات مع الولايات المتحدة ، وتنتهك التشريعات الأمريكية ، وتتعاون مع إيران .
لم تتردد الشركات الصينية في ملء المناصب الشاغرة في السوق الإيرانية التي تركها الأوروبيون ، وعلى وجه الخصوص المجموعات الفرنسية. أما بالنسبة للنفط ، فقد استحوذت شركة China National Petroleum Corps (CNPC) على حصة توتال في حقل غاز جنوب إيران بحصة 80.1٪. بعد الاتفاقية الموقعة في يوليو 2017 بقيمة 4.8 مليار ،و استحوذت توتال على 50.1٪ تليها شركة البترول الوطنية الصينية بنسبة 30٪ وشركة بتروبارس الإيرانية (19.9).و بعد خروج توتال من الكونسورتيوم ، استحوذت CNPC على جميع الأسهم وتضع نفسها كشريك مهيمن في مجال الطاقة.، وتم تطبيق نفس الاستراتيجية على صناعة السيارات من خلال شركة Bejing Baic الصينية.
لم تستطع القارة العجوز مجابهة العقوبات الأمريكة ضد إيران ، ويكفي تدليلا لا حصرا ، الخسائر الضخمة التي حلت بكبريات الشركات الفرنسية منذ عام 2018 و التي تتعامل مع إيران و منها توتال ، و بيجو ، وستروين ، وأيرباص ، ولم تقم في ذات الوقت الإدارة الأمريكية بتعويض هذه الشركات الفرنسية أو غيرها في أوربا تدليلا عن الخسائر الضخمة التي حلت بها .
حينئذ صارت الصين تهيمن على القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد الإيراني باستثمارات تقدر بمليارات الدولارات وهذا يحدد ميزة تنافسية كبيرة على أوروبا ، مما يدل على عدم وجود سياسة اقتصادية هجومية موحدة بسبب النزاعات التي لا حصر لها بين الدول الأوروبية
يبقي التساؤل المشروع كيف تنسحب الولايات المتحدة انفرادا من الاتفاق النووي مع إيران في عام 2018 و تطالب مجلس الأمن في ذات الوقت بإعادة فرض العقوبات علي إيران بوصف الولايات المتحدة دولة مشاركة في ذلك الاتفاق ؟

                                                                                                                            دكتور أيمن سلامة   

                                                                                                                                أستاذ القانون  الدولي العام

التعليقات متوقفه