قانون فوق وطني؟!

581

كتب د. نصر عبد الخالق

أثناء تصفحي للفيسبوك, استوقفني منشور صغير بثلاث لغات لإحدى الصفحات القانونية التي يُتابعها-في الأغلب- طلاب كليات الحقوق و العاملين في المجالات القانونية المختلفة. و جاء المنشور كما يلي “عند مناقشة القوانين التي تحكم الأنشطة بين الدول ، هناك ثلاثة أنواع من القانون الدولي يمكن الرجوع إليها القانون الدولي العام ، القانون الدولي الخاص و القانون الفوق وطني” و ما أثار انتباهي هو هذا القانون الأخير “الفوق وطني” و ما زاد في دهشتي هو أن المعلومة أُعيد نشرها علي صفحات أشخاص متخصصين في مجالات قانونية شتى  بل و نستطيع القول أنهم خبراء في مجالاتهم. و لا يفوتنا أن نُشير إلي معايير الخبرة الشكلية التي استوفاها المنشور و المُتمثلة في صورة بروفايل جيدة للصفحة- و التي تكون غالباً صورة لمكان ما في أوروبا- كتابة المنشور بلغات أجنبية و خاصة الفرنسية التي تُعد شهادة مختومة بالإنتماء لصفوة المجتمع المصري (la crème de la crème), و ياحبذا إذا قام مجموعة من الخبراء بإعادة نشره, شريطة أن تكون صورة البروفايل خاصتهم  ببِذة رسمية و رابطة عنق, بالإضافة إلي صور متفرقة في مؤسسات غربية مرموقة. و كالعادة حصدت المعلومة “اللايكات” و “الكومنتات” وأُعيد نشرها- شأنها شأن معلومات كثيرة مغلوطة-من المتابعين لتصبح بإجماع أراءهم معلومة قانونية تتردد كثيراً علي مسامع الناس و يمر عليها الزمن لتكتسب رونقاً و هيبة فترتقي لتصبح أيديولوجية مُقنعة لنسبة لا بأس بها من الأشخاص إلا إذا وجدوا رداًً مقنعاًً مقابلاًً لها.

و لكن هل يعلو حقاً هذا القانون “الفوق وطني” علي القوانين الوطنية؟ نعم, فقد  شهدنا حلف الناتو يستجيب لقرار الأمم المتحدة رقم 1973 و يتدخل في ليبيا “لحماية الشعب الليبي”  ليؤمِن لها خرابة ينعم فيها الليبيون بشمس الصحراء الحارقة, بينما لم ترسل الأمم المتحدة قوات لميانمار “لحماية الشعب الروهينجي” و اكتفت بالتنديد و ذلك تقريباً لبعد المسافة بينها و بين نيويورك. هذه الأخيرة التي نفذت بلا هوادة قرار الأمم المتحدة رقم  1483 “لتنشر الديمقراطية في العراق”- و تدمرها عن غير قصد-و إذ بها تصحح خطأهاو تأتي بشركاتها لتعيد بناء عراق جديد في مقابل بعض المليارات الرمزيةو تستبدل الجيش الوطني الضعيف بالميليشيات القادرة علي حماية العراقيين. و لكن الغريب أن مؤسسات ما يسمي “بالقانون الفوق وطني” وقفت عاجزة حيال بعض المواقف الغير متعلقة بدول أفريقيا و الشرق الأوسط, فمثلاً المحكمة الجنائية الدولية عندما حاولت فتح تحقيق في جرائم الحرب المُرتكبة من قبل القوات الأمريكية في أفغانستان اتهمها وزير الخارجية الأميريكي بومبيو بأنها محكمة مُسَيسة و فرض علي مسؤوليها العقوبات, كما نري أن وزارة الخارجية الصينية و صفت حكم محكمة التحكيم الدائمة- الذي أدان موقفهافي بحر الصين الجنوبي- بالمهزلة السياسية و لم تُعره اهتماماً بالطبع, أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون فتحلي بأدب جم و قال بصراحة مفرطة أنه سيخرق القانون الدولي و اتفاقه مع الإتحاد الأوروبي بشأن البريكسيت لمصلحة بلاده, هذا فضلاً عن الدب الروسي الذي ابتلع القرم منذ ست سنوات و لكن عصابة القانون الفوق وطني لم تستطع سوي فرض العقوبات عليه.

و رأيي المتواضع هو أن العلاقات بين الدول يحكمها منطق القوة و المصلحة و أري أن الإستغراق في التفكير القانوني قد ينتهي في بعض الأحيان إلي السفسطة مما يجعل الشخص مُغترباً عن محيطه بعكس التفكير السياسي الذي يأتيمتسقاً مع الواقع بل و يفسره. و برهاناً علي ذلك فقد صادفني بحث علمي و أنا أكتب هذا المقال بعنوان  “أخلاقيات التدخل الإنساني في ليبيا” لأستاذ في جامعة مانشستر, حيث قال أن تدخل حلف الناتو في ليبيا جاء موافقاً لمعايير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول, حتي و إن كان العنوان يبدو لنا مثالي بل و مضحك و لكن هذا الأستاذ يعي تماماً ما يفعله فهو يراعي مصالح بلاده و يرسخ الأفكار(و الأيديولوجيات) التي تدعم سياستها الخارجية حتي و إن كان الثمن شقاء شعوب بأكملها و هذا دور المثقفين و الخبراء(أو الإنتليجنسيا). فهو عندما يكتب بحثاً كهذا يُعلِم الطالب الناشئ أنه يحق لبريطانيا أن تتدخل في أي مكان في العالم لحماية حقوق الإنسان و الحيوان و النباتات إذا شاءت.

و هنا أود أن أسأل صاحب المنشور محل النقد -بصفته خبير- هل من مصلحة دولة فيطور التنمية كمصر أن تضع نفسها تحت وطئة قانون يُملي عليها؟ هل يجب علينا نقل أفكار الغرب كما هي دون إعادة صياغتها بحيث تصبح موائمة لظروفنا؟  أوليس الإنضمام  للمنظمات الدولية الفوق وطنية رهن قبول الدولة؟ فكيف يصبح إذاً القانون فوق وطني إذا كان بإمكان الدولة أن تتحلل منه في أي وقت؟ و ما الفرق إذاً بين الخضوع للقانون الفوق وطني و الإحتلال؟ أوليس الأخير سلطة فوق وطنية تُملي قوانينها علي الشعب؟ هل من الأفضل أن نحكم أنفسنا أم أن نعود لأيام الإنجليز و فرمانات الباب العالي؟

إن غرضي الرئيسي من هذا المقال هو أن أدعو من سيقرأه للقراءة و الإطلاع, اقرأ و أفهم بنفسك و لا تستقي معلوماتك من الفيسبوك و لا تصدق معلومة إلا بعدما تتحقق منها  و شُك في كل أصحاب الشهادات ذات الأسماء الرنانة لحين إثبات العكس و لا تنخدع بالمظاهر الاجتماعية لأصحاب الدرجات العلمية المرموقة, فشهاداتهم لا تنُم بالضرورة عن معرفة علمية حقيقية. و لا تنخدع بالمظاهر و لا بالمصطلحات العويصة التي تستخدم فقط لتعقيد الفكرة  فيشعر المستمع أن الموضوع كبير! و لكنه في حقيقته بسيط . و أخيراً لا تبهرك اللغة حتي و إن كانت الفرنسية التي أتحدثها بالمناسبة و لا أعتبر نفسي من صفوة المجتمع المصري.

التعليقات متوقفه