أحد رواد النقد في القرن العشرين ..علي الراعي.. مائة عام من الحضور الإبداعي

189

*عيد عبد الحليم

تحتفل الحياة الثقافية المصرية والعربية بمئوية الناقد الدكتور علي الراعي ، أحد أهم النقاد العرب في القرن العشرين ، وصاحب الرؤية النقدية التي كان لها أثر واضح في تطور الحركة الأدبية والمسرحية في مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين .

في مدينة الإسماعيلية ولد علي الراعي في 7 أغسطس عام 1920 ، في مجتمع مفتوح مليء بثقافات متعددة ، حيث كانت المدينة في تلك الفترة تسكنها جنسيات مختلفة ، مما كان له أثر واضح في شخصيته بعد ذلك في مراحل عمره المختلفة.

كان  (الراعي ) منذ طفولته صاحب ذهنية متوقدة منفتحة علي الفنون المتنوعة ، وكان انتقاله إلي القاهرة ، عام 1939 ليلتحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، وأثناء الدراسة الجامعية ظهر اهتمامه بالمسرح العالمي ، خاصة المسرح الانجليزي ، وعندما تخرج عام1944سافر إلي انجلترا في منحة دراسية من جامعة برمنجهام ، أتم خلالها رسالة الدكتوراه عن مسرح برنارد شو.

تنوعت اهتمامات (الراعي) الثقافية ، حيث بدأ العمل في الإذاعة المصرية كمقدم برامج وهو من الجيل الثاني من رواد العمل الإذاعي مع بابا شارو (محمد محمود شعبان) وجلال معوض وصفية المهندس وأحمد فراج وغيرهم .

كما قام أيضا بالتدريس في الجامعة ، ورأس هيئة الموسيقي والمسرح بوزارة الثقافة المصرية في الستينيات ، كما أنشأ أول فرقة فنون شعبية في مصر.

في تلك الفترة بدأت الرؤية النقدية لدي الراعي تتخذ مسار التأكيد علي الهوية ، من خلال الاهتمام بكل الفنون ذات البعد الحضاري سواء كانت فنونا شفاهية أو فنونا مدونة ، نري ذلك واضحا في توجهاته الصحفية حين تولي رئاسة تحرير مجلة المجلة عام 1959، والمجلة لنشر الدراسات الشعبية ، فظهرت رؤي جديدة علي الثقافة المصرية وقتها لمؤسسسي الدراسات الشعبية في مصر أمثال أحمد رشدي صالح وعبدالحميد يونس، وهي دراسات تؤكد وتبرز فنون الموروث الشعبي ، وتجاورت هذه الدراسات مع مقالات لطه حسين ومحمد مندور والعقاد وزكي نجيب محمود وعثمان أمين .

وربما كان هذا التوجه نتيجة للظرف السياسي والثقافي الذي وجد مع ثورة يوليو1952، حيث وجدنا معظم الأشكال الإبداعية تنحو هذا المنحني ، بمعني الاستفادة من الموروث الشعبي ، وكذلك توظيف التراث في الأعمال الإبداعية ، مع وجود اسقاطات للواقع المعاصر، وهذا ما رأيناه في أعمال ألفريد فرج المسرحية ، مثل ( حلاق بغداد) و( علي جناح التبريزي) ، وكذلك في المسرح الشعري عند صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي ، بالإضافة إلي توظيف الفلكلور في الشعر العامي والفصيح .

وربما كان علي الراعي أكثر النقاد وعيا بتلك المرحلة ، وأكثرهم طرحا للرؤي التي تربط بين الماضي والحاضر ، من خلال استحضار المكونات الشعبية للحضارية المصرية والعربية ، خاصة في فنون الأداء المسرحي .

وهذا ما ظهر جليا في كتبه (الكوميديا المرتجلة) و(فنون الكوميديا) و(مسرح الدم و الدموع) .

هذه الكتب الثلاثة _ تحديدا _ عند صدورها أحدثت ضجة هائلة مابين مؤيد ومعارض ، ففي حين أكد د. لويس عوض في مقال مطول بجريدة الأهرام أن كتاب (الكوميديا المرتجلة )أهم ماظهر في حقل الدراسات المسرحية ، إلا أنه أخذ علي مؤلفه ، وكان معه في هذا الرأي توفيق الحكيم ونعمان عاشور ، أن الكتاب يسعي إلي سحب البساط من تحت قدمي المؤلف ويقدمه هدية غير مستحقة للممثل .

بينما رأي البعض أن الكتاب محاولة لإفساح المجال الأوسع أمام المسرح كفن متعدد الروافد ، مع الاهتمام بتنمية قدرات الممثل ، من خلال الأداء باللفظ والحركة والصوت ، وضرورة مشاركة الممثل في بناء النص المسرحي ، من خلال مشاركته في ورش تدريب علي الكتابة المسرحية .

ولعلي لا أبالغ لو قلت أن (الراعي) كان سابقا لعصره فهذه الرؤية تتحقق في السنوات الأخيرة ، حيث نجد كثيرا من عروض الفرق المسرحية المستقلة تقوم علي نصوص جاءت نتيجة ورش كتابة مسرحية جماعية .

جذور شعبية

في هذ الكتاب يعود الراعي إلي جذور المسرح الشعبي ، والتي تجلت في فنون  (خيال الظل) و (الأراجوز) مؤكدا علي أهمية هذا النوع من المسرح الذي يعمل علي إثارة وعي الجمهور باللحظة التي يعيش فيها ، يقول الراعي :

(إن المسرح الشعبي لا يعنيه أن ينسي المتفرج مايجري أمامه إنما هو مجرد عرض مسرحي،وهو لايسعي إلي أن يندمج  متفرجه  في العرض المسرحي حتي لينسي نفسه،وينسي الزمان والمكان الذي يعيش فيه.إن المسرح الشعبي لا يجد غضاضة في أن يتنبه متفرجه كل التنبيه،و يعي تماما أن ما أمامه عرض لقصة من قصص الحياة وليس الحياة ذاتها)

ويضيف الراعي لافتا النظر إلي أهم عناصر (مسرح الارتجال)

قائلا :

(من عناصر مسرح الارتجال القدرة الذكية علي التقاط الحدث الاجتماعي الذي يشغل الرأي العام،ثم إدخاله إلي صلب العرض المسرحي، بغية جذب الجمهور وتحويل جانب من اهتمامه بالحدث إلي اهتمام بالعرض المسرحي أيضا ، فكأن الفنان يدعو جمهوره إلي التعاطف مع فنه،بعد أن تعاطف هو مع اهتماماته السياسية والاجتماعية،وفي الوقت ذاته يقوم الفنان بجزء من دوره الرئيسي وهو عرض الحياة وانتقاده انتقادا فنيا)

وما طرحه د.علي الراعي منذ مايقرب من نصف قرن صارت التجارب المسرحية العالمية ذات البعد التجريبي تعمل به _ أيضا_ بمعني أن الأفكار التقدمية في الفن الثقافة تتوارد في خواطر المبدعين

وهذا مانراه في تجربة (مسرح الشمس) لأريان منوشكين ، وهو مسرح قريب من شكل المسرح الاحتفالي الشعبي في التراث العربي ، كما يلعب الارتجال فيه دورا مهما .

وقد جاء في بيان الفرقة:(هدفنا أن يعبر المسرح عن الحقائق الاجتماعية وليس مجرد إعطاء تقارير بسيطة بل يجب عرض تقارير بسيطة تدفع المشاهد لمحاولات تغيير وتبديل ظروفه المعاشة).

وهذه النظرة تقترب مما طرحه الراعي منذ أكثر من نصف قرن .

فنون الكوميديا

وفي كتابه (فنون الكوميديا من خيال الظل إلي نجيب الريحاني) يستعرض علي الراعي مجموعة من التجارب المسرحية الرائدة في مصر ومنها تجربة الكاتب المسرحي (محمد تيمور) واصفا أعماله بأنه قدمت ما يسمي (الكوميديا الانتقادية) ، ثم ينتقل للحديث عن (مسرح نجيب الريحاني) ، مشيرا إلي أن الريحاني بدأ مسرحه بكوميديا شعبية مستمدة من فنون الارتجال الشعبية من الكوميديا المرتجلة التي عرفتها مسارح مصر ومقاهيها وأفراحها منذ أوائل القرن العشرين.

ومنذ البداية تعلم الريحاني أن الكوميديا يجب أن تنبع من عرض مسرحي ناجح ومن فرجة واضحة،علي أن يسمح هذا العرض بالنقد الاجتماعي،وبشيء من الفكر،والعاطفة في الوقت المناسب . وفي الفصل الأخير من الكتاب يتطرق لتجربة نعمان عاشور كنموذج للكوميديا الجديدة ذات الرؤية الواقعية ، مستشهدا بمسرحية (المغناطيس) وهي من أول المسرحيات التي كتبها عاشور,

يقول الراعي عن المسرحية (تتحول شخصيات الكوميديا الشعبية إلي كائنات حية ، وتترك جذورها ، ولا يعود لها من الأصل إلا المظهر الخارجي ، وقد كتب نعمان عاشور((المغناطيس)) ليضحك الناس ويغيرهم معا، أملي عليه هذا الهدف المزدوج ثورته الاجتماعيه وفكره الاشتراكي ، وساعده حبه للناس ورغبته الطبيعية  في مخالتطهم ، بل فلنقل انتماؤه الطبيعي لهم )

أما كتابه المهم (المسرح في العالم العربي) والذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت ، فاستعرض فيه تاريخ ونشأة المسرح في عدد من البلاد العربية مثل المغرب والجزائر وليبيا وسوريا ولبنان والكويت التي عمل فيها لفترة أستاذا للمسرح في جامعاتها ، وكان له دور مع عدد من الفنانين المصريين في تطوير المسرح الكويتي .

وعلي حد تعبير الناقد الراحل د. سيد البحراوي فإن علي الراعي حاول أن يبحث عن أصول درامية في الأشكال الشعبية التي رأى أنها امتدت لدي المسرحيين المعاصرين وخاصة في فن الكوميديا .

وبالمثل جاء تتبعه لنشأة وتطور الكتابة الروائية العربية ، حيث نجد في كتابه (الرواية في العالم العربي) محاولة للبحث عن الجذور التراثية للكتابة السردية لدي العرب القدماء ، وهذا أيضا ما نجده في كتابه (دراسات في الرواية المصرية) والذي تناول فيه نماذج سردية رائدة ، وتأثير الأنواع الأدبية الأخرى علي الكتابة الروائية ، وهو ما عرف بعد ذلك بفكرة تآزر الفنون .

وكان الراعي من أكثر النقاد قربا من الأجيال التالية له فكتب دراسات متعددة عن أبناء جيل الستينيات أمثال جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان و صنع الله إبراهيم وميخائيل رومان ومحمود دياب ومحمد إبراهيم أبوسنة

كما كتب عن جيل السبعينيات أمثال إبراهيم عبد المجيد ومحمد أبوالعلا السلاموني وعبده جبير وبهيجة حسين وسلوي بكر وغيرهم .

وظل متابعا لإبداعات جيل الثمانينيات والتسعينيات حتى وفاته في يناير 1999.

التعليقات متوقفه