محمود دوير يكتب:عن “ناصر” والجماعة.. والقوى الناعمة

223

*بقلم محمود دوير

على بعد خمسين عامًا من الآن رحل الزعيم.. رحل جمال عبد الناصر وما زال جرح الوطن غائراً، وسيناء تحت قبضة المحتل، والقضية العربية فى أزمة حادة عقب أيلول الأسود، وصراع الدم “الفلسطينى – الأردني”.

رحل ومرارة الهزيمة فى يونيو لا تزال فى الحلق ساكنة لا تغادره، رغم بطولات حرب الاستنزاف، وبسالة جنود أوجعتهم الهزيمة القاسية، لكنها لم تكسرهم، وانهيار معنوي أصاب عشرات المثقفين الذين بشروا بالجنة والنصر “وبساتين الاشتراكية”.

رحل فى لحظة حرجة من عمر الوطن.. لكن نصف القرن الذى مر يؤكد بقوة أن حضوره الطاغى لا يوازيه حضور فى تاريخنا المعاصر..

لا يزال المصريون يحتفظون بصورته فى منازلهم وصوته فى آذانهم ومحبته فى قلوبهم بلا منافس أو منازع رغم مرور الزمن وتقلب الأحوال.

ورغم ما جرى فى النهر من ماء كثير يظل نموذج ناصر بكل ما يحمله من عدالة وانحياز للفقراء وصناعة مشروع وطنى بكل مفرداته سواء على مستوى القرار المستقل أو بناء قاعدة صناعية عظيمة ما زلنا نستند إليها كلما حلت الشدائد رغم مساعى متواصلة منذ عقود للتفريط فيها وفقا لنهج الاقتصاد الحر والسوق المفتوح الذى يفرض ادواته على كل مناحى الحياة.

رغم كل شىء ورغم الأخطاء الكبرى فإن مشروع عبد الناصر هو المشروع الأهم حتى الآن بعد  تجربة محمد على .

لست من الذين يتعاطون مع التجارب بمعزل عن ظروفها الموضوعية لذلك فإن تجربة عبدالناصر فى التعامل مع جماعة الإخوان خاصة فى الفتره من (1954- 1970 ) يستحق القراءة والتحليل بدقة والاستفادة من دروس تلك التجربة خاصة وأن هناك نقاطا تشابه عديدة بين حالتنا فيما بعد 2011 حتى الآن وما بين تعامل عبد الناصر مع التنظيم الإرهابى الذى استهدف قتله أكثر من مرة وسعى بكل قوة للانقضاض على ثورة الضباط وخطفها وتعاون مع الإنجليز والأمريكان ضمن تلك المساعى الحثيثة والمتواصلة.

فى عام 1954 تعرض ناصر لمحاولة اغتيال أثناء إلقاء خطابه فى المنشية وجاءت اعترافات المتهمين بالقتل كاشفة عن مخطط شامل من جانب الجماعة للسيطرة على مصر.

كانت الحادثة نقطة تحول فى مسيرة الثورة الوليدة ونقطة فارقة فى علاقة ناصر بالجماعة وبدأت مرحلة الصدام الذى لا مفر منه والتى استمرت حتى رحيل عبد الناصر فى  28 سبتمبر من عام 1970.

كان للجماعة نفوذ فى الشارع المصرى قبل تلك الواقعة لكنه لا يقارن اطلاقا بنفوذها عقب عودتهم للحياة فى منتصف السبعينيات وفقا لتفاهمات جرت بينها وبين الرئيس – المؤمن – أنور السادات.

فقد سمح لهم بالعمل فى ربوع مصر دون قيود من الدولة وظل الأمر هكذا حتى اندلعت ثورة يناير لتكشف عن وحش كامن هب فجأة ليبتلع مصر ومن فيها.

امتلك ناصر مشروعا وطنيا ينحاز بقوة لأغلبيه الشعب فصنع لنفسه ونظامه درعا من الملايين التى أحبته بصدق لأنه انحاز لها بصدق واخلاص.

بنى للبسطاء وطنهم الذى بددته عهود الملكية ولم يبن منهم ولم يبحث عن دعم سوى من هؤلاء البسطاء والصادقين.

هذا المشروع الوطنى كان فى القلب منه بلورة ما نسميه بقوة مصر الناعمة.. وهى الدرع الثانى الذى واجه به ناصر جماعة سعت دوما للتغلل فى ثنايا الشعب مستخدمة شعارات الدين ودعاوى امتلاك حقيقته.

أدرك ناصر مبكرا أهمية سلاح القوة الناعمة ليس فقط ليواجه أفكار التطرف بالثقافة والفن ونشر الوعى لكنه كان يؤمن بدور حقيقى للدولة فى تقديم خدمة ثقافيه لكل مواطن وفى كل مكان وكان حلم صلاح جاهين حين قال “تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا .. فى كل دولة عربية” مجسدا لقناعة نظام حكم عبد الناصر ورؤيته لأهمية الثقافة والوعى فى مواجهة تحديات الإرهاب والإسلام السياسى.

فصنعت الدولة أكبر قاعد ثقافية فى تاريخنا الحديث وفتحت الآفاق أمام الحداثة بكل صورها فنشطت الترجمة وأنشات مؤسسة السينما والمسرح القومى والمعهد العالى للسينما وأكاديمية الفنون وشيدت المنشآت الثقافية والفنية فى كل مكان وتأسست الثقافة الجماهيرية على يد “سعد كامل” برعاية وزير الثقافة الاستثنائى “ثروت عكاشة”.

أدركت دولة ناصر أن مواجهة الإرهاب وجماعته لن تتم فقط بالتعامل الأمنى من عناصرها لذلك كان مشروعه يعتمد عن العدالة والاستقلال والتنوير هذا المثلث العظيم الذى صنع مكانة ناصر فى وجدان المصريين والعرب وسيظل حاضرا دوما لأنه عبر بصدق وانحاز بصدق للاغلبية.

ولعل المواجهة التى خاضها ناصر مع الجماعة تشبه إلى حد كبير تلك المواجهة التى تواجهها مصر مع نفس الجماعة منذ ثورة 30 يونيو لكن السؤال الذى يلح دوما ويجدد نفسه فى كل لحظة.

هل نحن الآن نواجه الأفكار أم نكتفى بمواجهة الإرهابيين؟ وهل نصنع درعا شعبيا متماسكا ومستداما لصد إرهاب الجماعة وفلولها؟.

إرهابها الفكرى لا يقل خطورة عن قنابلها فالأول يصنع الثانى..

بالطبع فإن قوانا الناعمة قد أصابها عطب كبير ساهمت الجماعة وحلفاؤها فى ذلك التراجع كما ساهم الانفتاح الاقتصادى بنفس الدرجة فى ذلك العطب حيث تم تسليع الثقافة فيما خاضت الجماعة حروبا فى مواجهة الثقافة الوطنية وكل رموز الاستنارة وشنت حملات تصفية معنوية ضد كل خصومها.

لعل هذا التراجع فى قوتنا الناعمة يستدعى بقوة استعادتها وفتح الأفق أمام رموز الاستنارة وتأكيد من الدولة على ضرورة المواجهة الفكرية للجماعة وحلفائها كما يستدعى بنفس القدر الحفاظ على تماسك شعبى وحالة رضاء جمعى بين ملايين البسطاء الذى شكلوا الوقود الحقيقى لثورة 30 يونيو وواجهوا بقوة مخاطر سرقة مصر وتصدوا بفطرتهم السليمة لمحاولات الأخونة.

هؤلاء يجب استاعدتهم سريعا.. فلا أحد بوسعه أن يتحمل مزيدا من الشروخ فى جدران الوطن الذى يواجه تحديات لا حصر لها من بينها تحدى جماعة تتربص بالوطن وليس فقط بنظام الحكم.

التعليقات متوقفه