فى نزاع كاراباخ تركيا وروسيا.. تتبادل اللكمات دون إراقة دماء

380

يبدو أن هناك نوعا من الصراع المكتوم بين موسكو وأنقرة على خلفية الحرب فى ناجورنو كاراباخ، والذى يعد أعنف تقاطع للمصالح بينهما، منذ إسقاط الطائرة المقاتلة الروسية فوق سوريا واغتيال السفير الروسى فى تركيا.
فكما نعرف روسيا بلا شك تؤيد أرمينيا، حيث حاولت الأخيرة مع بداية الحرب الحالية أن تذكر روسيا باتفاقية الأمن الجماعى الموقعة بين يريفان وموسكو فى إطار رابطة الدول المستقلة (الكومنولث)، لكن روسيا ردت بأن أرمينيا لا تتعرض للعدوان حتى الآن، وهى بذلك ربما أرادت أن تعطى درس لأرمينيا، التى بدأت تجنح للتعامل مع الغرب بعد ثورتها المخملية، بل وقام رئيسها الجديد بالتخلص من بعض القيادات الأرمينية التى كانت محسوبة على موسكو، كان آخرهم مستشار الأمن القومى الأرمينى، كما أن روسيا ربما أرادت أن تقول لأرمينيا إن كاراباخ ليست جزءاً من أراضيها.
أما على الصعيد التركى، فقد تحدث وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، وأشار إلى أن تركيا لا تعتبر بالنسبة لروسيا حليف استراتيجى بل شريك استراتيجى، فكان الرد التركى عنيف وغشيم ففى زيارة للرئيس الأوكرانى لتركيا، وأثناء المؤتمر الصحفى مع الرئيس الأوكرانى أعلن الرئيس التركى أن أوكرانيا دولة مهمة للاستقرار فى إقليم البحر الأسود، وأكد حرصه على وحدة وسلامة الأراضى الأوكرانية، بما فيها القرم، وأكد أن بلاده لن تعترف بالقرم كجزء من روسيا، فما كان من روسيا إلا أن أقدمت على إجراء مناورات عسكرية فى منطقة بحر قزوين المجاورة لمنطقة نزاع كاراباخ، فإذا بتركيا تقوم بتجربة صواريخ إس ـ 400 التى اشترتها من روسيا، ربما لتؤكد لموسكو على أنها زبون سلاح مهم، وأنها من الممكن أن تعقد صفقات أخرى، وهو ما أغضب الأمريكيين الذين هددوا تركيا بفرض عقوبات وهو ما بعث الراحة فى نفس موسكو.
هذا هو الموقف الآن بين روسيا وتركيا، الأولى حليف أزلى ثقافى وعسكرى لأرمينيا، والثانية أى أنقرة حليف أزلى ثقافى وعرقى لأذربيجان، تركيا لن تتخلى بسهولة عن أذربيجان لأنها تريد أن تجد لنفسها رأس جسر إلى منطقة تركستان ووسط آسيا وهى مناطق النفوذ الروسى فيها كبير، ويعتقد بعض المراقبين أن من زاد التصعيد فى ناجورنو كاراباخ هى أنقرة، ونقل البعض عن موقع “تو داى نيوز” أن تركيا هى التى ألحت على أذربيجان بأن تبدأ العمليات العسكرية منذ عدة أشهر مضت، ووعدت الأخيرة بالدعم الاستخباراتى فى عملية الهجوم. وعدت تركيا كذلك بالمساعدة فى حل الأمور الدبلوماسية، وليس سراً أن الاستعداد للحرب بدأ فى شهر أغسطس الماضى، بعد انتهاء مناورات مشتركة بين البلدين. جدير بالذكر أن عدد العسكريين الذين بقوا فى أذربيجان بعد هذه المناورات ما يقرب 600 عسكرى تركى يقومون حالياً بالتخطيط للعمليات فى ناجورنو كاراباخ.
روسيا لم تكن ترغب أن تريد هذه الحرب التى أشعلتها تركيا فى جنوب القوقاز، فهى من ناحية ستؤدى إلى استقدام عناصر إرهابية سواء من سوريا أو ليبيا أو وسط آسيا وشمال القوقاز، وكلما طال أمد الحرب كلما زادت فرص استقدام العناصر الإرهابية من منطقة الشرق الأوسط وشمال القوقاز ووسط آسيا. ربما لهذا السبب لا تريد روسيا الدخول فى هذا النزاع بقوة، فمن المحتمل أن تجد عناصر إرهابية مازالت موجودة فى سوريا أو ليبيا فرصة للثأر من روسيا فى هذه المنطقة الجبلية الوعرة، وفى تقدير بعض المهتمين بالشأن الروسى سيكون على روسيا القيام بثلاث أشياء مهمة فى هذا النزاع أولاً أن تظهر للدول الأعضاء فى منظمة الأمن الجماعى وخاصة دول وسط آسيا الأعضاء قيرجيزستان وبيلاروسيا التى تتقاذفهما الأمواج والعواصف حالياً أن هذه المنظمة ليست من فراغ وأنها يمكن أن تقوم بالدفاع عن أعضائها، وهذا ما جعل أرمينيا ودول وسط آسيا فى منطقة التأثير الروسى حتى الآن، ثانياً وقف تركيا وحكامها العثمانيين الجدد عن التوسع، فتركيا على عكس روسيا التى دعت إلى ضبط النفس، صرحت بأن بدعمها المباشر لباكو، مشيرة إلى أن الأتراك والأذريين شعب واحد فى دولتين، وإذا تحدثنا عن الاقتصاد نجد أن تركيا تحاول التضييق على عملاق الغاز الروسى (غازبروم) فى السوق التركى، فى الوقت الذى يعانى فيه الاقتصاد الروسى، حيث تحتل روسيا المركز الخامس فى تصدير الغاز لتركيا، بينما تحتل أذربيجان حالياً المركز الأول بتصدير 23,5% من استهلاك تركيا من الغاز، بينما توقف توريد الغاز الروسى عبر “السيل التركى” أما “السيل الأزرق” فهو مازال قيد الإصلاح !!! ثالثاً سيكون على روسيا مهمة غاية فى الصعوبة وهى عدم إعطاء فرصة لانتصار ديانة على الأخرى (الإسلام والمسيحية)، مما قد يؤدى فى النهاية إلى تنامى التطرف الإسلامى فى المنطقة، وهو أمر غاية فى الخطورة على روسيا (25 ـ 30 مليون مسلم)، فحتى الآن يعرف الجميع أن هدف إردوجان هو تفجير روسيا من الداخل فى المناطق الإسلامية من روسيا، وخاصة شمال القوقاز والفولجا والمناطق المتاخمة لروسيا فى وسط آسيا.
حل معضلة كاراباخ يتطلب تهجير ونقل سكان بين أرمينيا وأذربيجان لعملية فصل عرقى لن يخرج عن مجموعة مينسك، لأنها عملية مكلفة جداً، وربما سيكون على مجموعة مينسك (روسيا وفرنسا والولايات المتحدة) فى إطار مجلس الأمن والتعاون الأوروبى أن تدفع الآن ثمن إهمالها حل قضية كاراباخ، وهو ما يعنى ضعف الغرب وسعيه لزعزعة الاستقرار فى روسيا بخلق بؤر توتر بالقرب من حدودها. أثبت النزاع أن روسيا تحتاج كذلك إلى منظومة أمنية جديدة وهو ما تسعى إليه حالياً مع الصين والهند وكازاخستان، أو من خلال منظمة شنغهاى للتعاون، غير أن هذه المنظمة غير مؤهلة لحل خلافات من هذا النوع وتقتصر مهمتها على الجانب الاقتصادى ومكافحة الإرهاب ونفى أعضاء المنظمة أكثر من مرة أنهم ليسوا بحلف عسكرى على غرار الناتو. وإنشاء تحالف عسكرى ليس مسألة سهلة.
وكما يقول مدير معهد آسيا واوروبا فلادمير ليبيوخين، تطلب الأمر وقت طويل لروسيا لكى تدرك أن خطورة التكامل مع الغرب التى انعكست فى رغبته القضاء على روسيا وإخضاعها لرغباته، وعندما أعربت روسيا عن الرغبة فى الاستقلال، قابل الغرب ذلك بسلبية كبيرة، ولهذا عوقبت روسيا بعدوان جورجيا على أوسيتيا الجنوبية والإنقلاب فى أوكرانيا والضغط على مولدوفا وجمهوريات البلطيق وبيلاروسيا واتهامات تسميم نافالنى المدون المعارض. على روسيا أن تستعيد دورها السائد فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق، لأن مشاركة الغرب ستخلق التوترات والقلاقل على الحدود الروسية الضخمة، وخاصة فى منطقة قابلة للانفجار مثل شمال القوقاز، يجب أن يكون التحرك الروسى سريع لوقف الحرب وإلا فإن الشرار سيطال بعض المناطق بالقرب من الحدود الروسية، ولم يطفئ لهيب هذا النزاع سوى روسيا، فالغرب غير معنى بل على العكس، لكن لا شك أن هناك ندبة حدثت فى العلاقات التركية ـ الروسية، ومن المتوقع أن نشاهد ضربات تحت الحزام بين البلدين.

التعليقات متوقفه