ماجدة موريس تكتب: صباح.. وعصر من الفن المصرى الجميل

231

عشر إجابات لعشرة أسئلة وجهتها لأبنائى ومعارفى عن أحب أغنية وأحب فيلم لصباح.. كان الاختلاف كبيرا ومعبرا عن مساحة كبيرة من الإبداع قدمتها هذه الفنانة سواء كمغنية أو ممثلة سينمائية على مدى ما يزيد على نصف قرن من الفن والعلاقة معنا كجمهور وأيضا علاقتها بحياتنا العامة فى مصر وأحداث حياتنا المتقلبة سياسيا واجتماعيا.. صباح جاءت إلى مصر فى الأربعينيات لتمثل فى فيلم تنتجه “آسيا” بناء على شهادة صديق لبنانى سمعها تغنى فى حفل مدرسي، فحضرت وكان اسمها “جانيت فغالي” وبعد سنوات قليلة رحل الاسم وملامح الحياة الأولى فى لبنان وبدأت ملامح حياة أخرى مختلفة تحولت فيها الطالبة جانيت إلى الممثلة والمغنية صباح، وكانت السينما المصرية بل الحياة المصرية كلها تتمتع بأفق يحتفى بالفن فى أشكاله المختلفة ولديه تسامح مغر بقبول كل من يحضر للعمل فى السينما والمسرح والكتابة والنشر من كل مكان عربي، خاصة أهل الشام، فى ذاكرة البعض “للدهشة هم من الشباب” تمتعت صباح فى بداية عملها بالسينما المصرية بخفة ظل عالية تجاوبت مع خفة ظل النجم الكبير محمد فوزى فى فيلم مثل “الآنسة ماما” عام 1950، وقبله فى أفلام مثل “القلب له واحد” و”عدو المرأة” عام 46، كانت تمثل لجمهورها الفتاة والمرأة الجميلة الطيبة البحبوحة التى تحب الحياة وترغب فى الارتباط بابن الحلال وتدخل فى مغامرات من أجل أن تحظى بالحب والحياة الطيبة، ولم يكن هذا بعيدا عنها إنسانيا وهو ما عرفناه من خلال مسيرتها الذاتية التى غطت فيها الأفراح على المآسي، حتى المآسى كانت تختفى سريعا فلم تكن تسمح لها بأن تتمدد وتصبح عنوانا لها، مع أنها واجهت مواقف صعبة كفيلة بأن تصنع منها حكايات عديدة مثل حكايتها مع الزوج الأول الذى هاجر وبعده الابن الوحيد، ثم حكاية ابنتها الوحيدة هويدا المأساوية مع الإدمان، ولكن صباح كانت حريصة على أن تداوى المأساة بالمزيد من حب الحياة وإثارة الجمال حولها فيما تغنيه أو تمثله أو حتى فيما يصدر عنها فى حواراتها الصحفية.. وفى مرحلة من مراحل حياتها فى مصر بعد أن أصبحت نجمة كبيرة، كانت هدفا للصحافة التى تكتب عن الفنانين، سواء الصفراء أو أى لون، ليس لإبداعاتها التى ملأت الإذاعات وأفلامها وإنما لزيجاتها، كان زواجها وطلاقها هو الموضوع الأهم لهذه الصحافة، وكأن هناك من يحصى عليها أيامها وقد حدث هذا أيضا مع غيرها مثل الفنانة الكبيرة الراحلة تحية كاريوكا، وكانت صباح فى هذا الموقف من حياتها الشخصية واضحة تماما، لا تؤمن بالأسرار فى حياتها العاطفية أو ربما كانت ترى أنه طالما يوجد من يحصى عليها أنفاسها فلماذا تخاف من الوضوح، وهكذا عرفت نهاية واحدة لعلاقاتها بالرجال، وهى الزواج ومواجهة الجميع بلا خوف من القيل والقال، وبالطبع فإن هذا الأسلوب الواضح اجتماعيا وإنسانيا كانت له مضاره أحيانا حين يحدث الطلاق سريعا لأسباب تخص التسرع أو خارجة عن إرادتها، لكنها لم تنظر إلى الوراء فى غضب أبدا، فقد علمتها الحياة النظر إلى الأمام دوما، واكتشاف الأفضل من خلال التعامل مع كل المواهب الكبيرة فى عصرها، وللعجب، فقد احتلت أخبار حياتها وزيجاتها مساحات أكبر بكثير من الاحتفاء بأعمالها الفنية وسؤال كبار المبدعين فى الموسيقى والألحان عما وجدوه فى صوتها من إمكانات بداية من القصبجى إلى السنباطى إلى عبدالوهاب إلى كمال الطويل والموجى وبليغ حمدى وفى لبنان فيلمون وهبى ووديع الصافى وغيرهما.

بين الأهلى والزمالك

فى رحلتها مع السينما المصرية تفوقت صباح فى عدد الأفلام التى قدمتها كممثلة مغنية، أو العكس، حيث قدمت العدد الأكبر من الأفلام الذى قدمته مغنية فى هذه السينما عبر تاريخها السينمائي، فعدد أفلامها تجاوز عدد ما قدمته ليلى مراد وشادية وهدى سلطان وأهم نجمات السينما المغنيات، وتطورها كممثلة فى هذه الأفلام واضح من الأفلام الأولى إلى نوع من ضبط الانفعالات وجودة الأداء ثم جاءت النقلة الثالثة لها كممثلة فى أفلام مثل “الرباط المقدس” و”الرجل الثاني” و”الأيدى الناعمة” الذى يعتبر أحد أهم الأفلام المصرية التى تطرح قضايا اجتماعية مهمة بأسلوب شديد النعومة، وموشح بمشاهد ساخرة.. أوهام كثيرة يعيشها الكثيرون فى مجتمعنا، ربما حتى الآن، 85 فيلما مثلتها صباح ضمن رصيد السينما المصرية الكبير، وغيرها قدمت العديد من الأفلام اللبنانية، والمسرحيات، أما رصيدها الغنائى فلا يحصي، وعلى مواقع عديدة على الإنترنت كان العدد ثلاثة آلاف أغنية أو أكثر.. لكن العدد لا يعنى شيئا بدون التوقف عند بعض دلالاته وأولها هذه المحبة الخالصة التى أعطتها صباح لمصر والمصريين مثلما أحبوها، والتى بدت واضحة فى مشاركتها فى أى تظاهرة غنائية لحدث وطنى ونتذكرها جميعا فى نشيد “وطنى الأكبر” مع عبدالوهاب وحليم وشادية ونجاة ووردة، ونتذكر أيضا غناءها للوحدة بين مصر وسورية “م الموسكى لسوق الحميدية” ثم “حموى يا مشمش”، بل إنها الوحيدة من أهل المغنى التى عبرت عن الوجدان الشعبى المقسوم كرويا بين فريقين “بين الأهلى والزمالك محتارة والله” وحين غابت فترة فى لبنان عادت مشتاقة لتغنى “والله واتجمعنا تانى يا قمر” و”سلمولى على مصر” وفى إحدى المرات كانت شريكة فنان الكوميديا الكبير فؤاد المهندس فى أغنية تواجه الإسراف فى رمضان “الراجل ده حيجنني” وكان غناؤها باللهجة اللبنانية عذبا بالنسبة لجمهورها المصرى “كالعصفورية” و”سعيدة ليلتنا سعيدة” أما غناؤها باللهجة المصرية فليس له مثيل فى قدرتها على إثارة مشاعر مستمعيها بفضل أداء مفعم بالحيوية وبحرارة توصيل معان متعددة فى أغنيات مثل “مال الهوى يامه ماله” لكمال الطويل و”حبيب القلب” لرياض السنباطى و”أنا هنا يا بن الحلال” و”الغاوى ينقط” للموجى و”ع الضيعة” لعبدالوهاب و”عدى عليا وسلم” لبليغ وغيرها من الأغنيات التى تمثل تراثا فنيا ثمينا ومعرضاً شديد التنوع لفنون التأليف الغنائى والألحان وفن الأداء، فهذا العدد من الأغنيات هو مكتبة فنية كاملة تعبر عن أكثر من نصف قرن من الإبداعات المصرية التى وصلت إلينا عبر صوتها، وآخرها كانت أغنيتها البديعة “ساعات ساعات” التى كانت بمثابة أفضل ختام لكل هذا الإبداع من خلال كلمات الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى وألحان الموسيقار جمال سلامة، ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه الأغنية لم تنتشر إلا بعد سنوات من صدورها ضمن أحداث فيلمها الأخير “ليلة بكى فيها القمر” إخراج أحمد يحيي، وربما صنعت الأقدار لها هذه النهاية الملائمة لإبداعها من خلال أغنية معبرة عن موقف صباح من الحياة.. وهو الموقف الذى تبنته حتى اليوم الأخير من عمرها “ساعات أحب عمرى وأعشق الحياة” والذى أكدت عليه حتى بعد رحيلها حينما كشف أهلها عن وصيتها التى تطالب محبيها بألا يبكون وإنما يودعونها بالغناء ورقص الدبكة حتى مقرها الأخير.. صباح حدوتة فنية بامتياز مثلما هى حدوتة مصرية عربية بامتياز أيضا.. وعلى الإذاعة المصرية أن تتعامل مع أغنياتها بما يليق بها وأن تخصص لها وقتا يوميا أو أسبوعيا مثلما يحدث مع كثيرين من مبدعى الغناء المصريين والعرب.. فهذا ما نقدر عليه فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون الآن لأن البحث عن أفلامها أصبح قضية أخري.. صعبة.

التعليقات متوقفه