مسرح الفلاحين.. جماليات الإبداع الجماعي

151

فى بحثه الدءوب عن جوهر المسرح يرى “جرتوفسكي” أنه يمكن للعمل أن يتم بدون مكياج أو ديكور أو أزياء أو إضاءة أو مؤثر لكنه لا يمكن أن توجد دون تلك العلاقة “الحية” بين الممثل والمتفرج وهذه الدعوة تنبنى – فى الأساس – على رفض تام لكل آليات المسرح لذا كانت دعوته المستمرة للخروج من أسر الخشبة أو “مسرح العلبة إلى فضاءات أرحب، فيرى أن أرض المسرح يمكن أن تكون بحرا مائدة أو مسندى مقعد أو قاربا أو زنزانة سجن”.

وهذا التصور الشكلى يأتى من تصور مواز ينبثق من الروح الإنسانية حيث كان يهتم بـ “عرض العملية الروحية للممثل لا يشترط فيه أن يكون محترفا، فالمهارة التمثيلية إنما تتأثر بإقامة ورش فنية تهتم بطرق الأداء المختلفة فى محاولة لبناء نسق جديد يعتمد على اختراق حاجز اللحظة الشعورية لدى المتلقى ولن يتأتى ذلك إلا بالاندماج الكامل أو على حد تعبير “إن الممثل يجب أن يكون قادرا على التعبير – بالصور – عن تلك الدفعات التى تتذبذب على الحدود الفاصلة بين الخيال والحقيقة، إنه باختصار يجب أن يكون قادرا على أن يبنى لغة التحليل النفسى الخاصة به للأصوات وهو يقصد بذلك القفز على الحواجز الفاصلة بين الممثل – باعتباره مؤديا وبين شخصيته الحقيقية فى الحياة – من ناحية، ومن ناحية أخرى تفتيت الهوية بين شخصية الممثل والجمهور فى محاولة لإقامة جدلية مسرحية تتوازى مع العرض بفضاءاته المختلفة، دون طغيان معرفى لفكرة التكنيك.

ومن الذين التقطوا هذه الرؤية وحاولوا تطبيقها فى مصر المخرج أحمد إسماعيل والذى تعتبر تجربته من أكثر التجارب استمرارية وحفرا فى أرض الإبداع المسرحى من خلال تقديمه لنموذج مسرحى خاص بقرية “شبرا بخوم” إحدى قرى محافظة المنوفية، ولأنه ابن هذه القرية فقد تزامن اهتمامه بالنشاط المسرحى مع التحاقه بالمعهد العالى للفنون المسرحية الذى تخرج فيه عام 1975، بتأسيس الفرقة عام 1973 وهو لم يزل طالبا بالفرقة الثانية وفى الفترة ما بين 1973 إلى 1977 قدمت الفرقة عدة عروض عبارة عن مسرحيات ذات فصل واحد، بالإضافة إلى تقديم مسرحية “الزوبعة” تأليف محمود دياب والتى كانت بمثابة ختام للمرحلة الأولي.

 

الإبداع الجماعي

وفى عام 1977 سافر المخرج أحمد إسماعيل لدراسة المسرح فى فرنسا عام بعدها عام 1979 ليجدد فى الإطار التنظيمى للفرقة من خلال الإبداع الجماعي، الذى يقوم على جمع كل ما يتعلق بالقرية من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وعلى المستوى الفنى كل ما يتعلق بفنون الأداء الشعبى من جمع للأغانى والحكايات الشعبية مع إعلاء قيمة المقاومة، للأغانى الشعبية والأمثال والمواويل والحكاوي.

وقد تم تدعيم الفرقة بالمواهب الفنية الفطرية لدى الفلاحين الذين وصل عددهم – فى ذلك الوقت – إلى عشرين رجلا وأربع فتيات، وفى هذا الإطار تم تقديم عدة عروض كان من أهمها “سهرة ريفية” وهى “تجربة فى الإبداع المسرحى الجماعي”، قدمت على ثلاثة أجزاء أعوام 1982، و1984، و1986 وقد لاقت هذه التجربة كثيرا من الاستحسان النقدي.

فتقول الناقدة عبلة الروينى فى جريدة الأخبار 1986 “السهرة الريفية” فى أجزائها الثلاثة تتناول مشكلات القرية المصرية حيث أزمة الإنتاج وأزمة الغذاء، وكيف تحولت قوى الفلاحين المنتجة إلى قوى مستهلكة، وما استتبع ذلك من مشكلات أكبر، وقد استخدمت الفرقة الأغنيات الريفية والألعاب الشعبية والارتجال لتحقيق صيغة فنية يحدث من خلالها التواصل.

أما الناقدة فريدة النقاش فتصف العرض فى مقالها المنشور فى جريدة الأخبار 1982 قائلة “تحول المسرح فى هذا العرض إلى ظاهرة اجتماعية كاملة الأركان بصرف النظر عن الشكل السردى العادى لمشكلات الحياة اليومية للناس دون استخلاص أبعد مدى من التفصيلات، ولكنه عمل يفتح الطريق – بقوة – أمام تجارب مشابهة تطرح من واقع الأرض التى تعمل عليها.

 

لغة المسرح

ومن وجهة نظرى أن “أحمد إسماعيل” قد لعب فى منطقة شديدة الخصوبة وهى إنتاج ما يمكن أن يسمى بـ “المسرح داخل المسرح” بمعنى أنه قدم العرض برؤيتين مختلفتين فى نفس الوقت عبر فكرة التحرر من “التشخيص” حيث أشرك مجموعة من الأطفال فى العرض ليعيدوا تمثيل المشاهد التى قام بها الممثلون مرة أخرى بحيث يعود المشهد كله إلى الطفولة فى لعبة مسرحية جذابة ومفرحة فى آن.

واللافت للنظر أن العرض – فى جوهره – كان يناقش أحوال أهل القرية وألاعيب المجلس المحلى الذين يحتكرون بيع المواد التموينية ويخفونها عن الفلاحين البسطاء ويمارسون سلطة سياسية عليهم، وقد حضر الجميع ليشاهدوا أنفسهم وقد جسدت شخصياتهم على خشبة المسرح.

ويعد العرض من القصص التقليدية كحكاية الحب التى من الممكن أن تقع بين ابن الفلاح البسيط وبنت أحد محتكرى السلع التموينية كما يحدث فى الأفلام وهو السؤال الذى طرحه أحد المشاهدين مما جعل المخرج يرد عليه – هو وفريق العمل – بأن الحكاية ليست مسلسلا تليفزيونيا يشوه الوعى وإنما هو الواقع بصورة تقريبية.

وقد أثبت العرض – عن طريق التجربة – أن العمل المسرحى الحقيقى لا يعترف بقلة الإمكانيات وإنما هو الذى يتكئ على قدرة استنساخ الواقع ومناقشة قضاياه بلغة بسيطة، وإن اعتمدت على بعض تقنيات المسرح التقليدى بشكل به قدر كبير من المزاوجة روح المكان وفضاءات التقنية.

 

تصميم الخشبة

وبعد عرض “سهرة ريفية” تحقق كثير من أغراض الفرقة وأهمها أن يكون خطابها المسرحى معبرا عن القرية من خلال خصوصية الأداء ومصداقية التعبير بخطاب نقدي، لكشف أى زيف أو عدوان يمارس ضد البسطاء والمهمشين من أهلها.

وعلى حد تعبير المخرج أحمد إسماعيل “أصبحت الفرقة بمثابة برلمان القرية، يحضر إليها كل من عنده شكوى أو هم، فقد وضع الطابع النقدى لسهرة ريفية أصحاب المسئولية والنفوذ بالقرية فى موقف، ومن أساء واستغل نفوذه أصبح موضع سخرية واتهام من الرأى العام بالقرية”.

وفى تلك الأثناء كانت فكرة تطوير بناء المسرح الذى صممت خشبته على هيئة دائرة، ومدرجات الجمهور البسيطة تحيط بنها من نصف محيطها، فكأن خشبة المسرح تحتضن المدرجات مما يجعل الجمهور فى قلب العرض والعكس، وقد ساهم فى بنائه أبناء القرية بمجهود ذاتي، حيث تبرع الأهالى كل قدر استطاعته، رغم أنه لم يتكلف إلا مبلغا ضئيلا، نظرا لأنه لا يحتاج إلى تقنيات كثيرة، وعلى خشبته تم تقديم “سهرة ريفية” استعدادا للمشاركة فى مهرجان القاهرة الأول للمسرح التجريبي.

وفى عام 1988 أعادت الفرقة عرض “الشاطر حسن” تأليف فؤاد حداد ومتولى عبداللطيف الذى قدمته لأول مرة عام 1984 من خلال بناء درامى جديد يهتم بالآليات الفنية فى المسرح الشعبى مع إعلاء قيمة المقاومة، واستمر عرضه ثلاثين ليلة، كما تم عرضه – أيضا – بقصر ثقافة الغوري، بعد ذلك قدمت عرض “ليالى الحصاد” تأليف محمود دياب وقدمت فى ثلاثين ليلة عرض وذلك عام 1999، وهو نص يقوم على فكرة السامر الشعبى من خلال حكاية عن قرية يجلس أهلها يتسامرون فى المساء ويقومون بتشخيص بعضهم بعضا، ومن خلال هذه اللعبة – ذات الأقنعة – يطرحون مشاكلهم وقضاياهم الاجتماعية وأفكارهم وأحلامهم.

 

التعليقات متوقفه