جورج البهجورى : أسلوب خاص وخطوط مميزة.. تجمع بين الفن التشكيلى والكاريكاتير الساخرأسلوب خاص وخطوط مميزة.. تجمع بين الفن التشكيلى والكاريكاتير الساخر

498

عندما جاء جورج بهجوري الي القاهرة فى منتصف الخمسينيات بدأ يجلس على مقهي اوبرا بالعتبة، وكان المقهي المفضل لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ. وفى صباح كل جمعة كان يأتي الأستاذ فيجلس من حوله المريدون.. وذات يوم اقترب محفوظ من الشاب القادم لتوه من صعيد مصر: وسأله ماذا تفعل؛ فقال له بهجوري أنني أرسم وسوف أسافر الي باريس لأرسم هناك من أجل العالمية “ ؛ فقال له محفوظ :” خليك محلي هنا وكلما زادت المحلية أصبحت عالميًا”.

عندما التحق بهجوري بمؤسسة “روز اليوسف “ كان هناك الجيل الرائد فى فن الكاريكاتير بقيادة الفنان حسن فؤاد، بالاضافة الي صلاح جاهين وعبد السميع وحجازي وزهدي العدوي، ومنذ رسومه الأولي أصبح لبهجوري أسلوبه الخاص وخطوطه المميزة ؛ وقد كان يجمع مابين الفن التشكيلي والكاريكاتير الساخر.
ومنذ بداية الثمانينيات غادر بهجوري الي فرنسا ليقيم هناك لأكثر من ثلاثين عامًا؛ وقد رصد تجربته مع الاغتراب والابداع فى سيرته الذاتية التي صدرت عن دار شرقيات تحت عنوان “ أيقولة فلتس”.
تأثر البهجوري، بنشأته فى أحضان الطبيعة؛ وتعلم الصلابة والمقاومة؛ فأدرك مبكرا أن الفن الحقيقي لابد وأن ينحاز الي الناس ويطرح قضاياهم بكل صدق “ ومع كل الأحداث التي مرت بمصر عبر بريشته عن كل المواقف بجرأة وجسارة وبلغة فنية كاشفة.
وعي بحركة التطور
وهذا ما رأيناه فى رسومه عن الثورة المصرية عن تفاعله ومن هذه النماذج رسمه فى جريدة الاهرام للشهيد وهو محمول على الاعناق ملفوفا بالعلم المصري مع صوت ام كلثوم وهى تقول”عيشوا كراما او موتوا كراما تحت ظل العلم” حيث اضاف لها كلمة “موتوا” تحية للشهيد.
و”بهجوري “ من الفنانين المرتبطين بالناس،والواعين بحركة تطور المجتمع. حيث يري أهمية أن يكون تطور الفنون المرئية فى خدمة الناس، حيث كان المجتمع فى الستينات من القرن الماضي يعيش حركة مسرحية جديدة يقودها كتاب جدد مثل نعمان عاشور وسعدالدين وهبه، والفريد فرج ولطفى الخولي، وكان المسرح آنذاك موجها نحو حرية الانسان والعدالة والتي كانت من مطالب الثورة الحديثة، حتى تتحقق كل الاحلام الوردية دون ان تبقى احلاما جميلة فقط، وهو ما يحتاج إلى جد وعمل كبير، كما ان الثقافة ليست فقط مسرح وسينما، وانما يضاف إليها المهنة اوالفرع الذي ينتمي اليه أو فن الرسم واللوحة والتمثال، والبحث فى كيفية ان ترتقي إلى العالمية وتغزو المسابقات المهمة فى العالم، من خلال ترشيحات صادقة وموضوعية.
وعبر بهجوري، عن عدم قلقه من فكرة النكوص والعودة إلى ما قبل الثورة وذلك من خلال العمل الجاد.
حصل بهجوري، على عدة جوائز عالمية فى مجال الكاريكاتير فى عامى1985و1987 وقال إن أهم تلك الجوائز كان جائزة او شهادة تقدير من هيئة الامم المتحدة مع رسام فرنسا “بنتيه”، حيث كان كوفى عنان سكرتير عام الامم المتحدة آنذاك يشجع الكاريكاتير ليكون موجها كرسالة من اجل السلام، وانه من الممكن ان يضرب فى الظلم والقمع من خلال النكتة الساخرة التي تجذب الناس باسلوبه المفرح الجميل البسيط، فكان مطلوبا من رسامي الكاريكاتير ان يرسموا ابتسامة على وجه هذا العالم التعيس، فاختارته هيئة الامم كواحد ضمن 15 رساما فى العالم، اما الجائزة الثانية الهامة فهى الجائزة الاولي لمسابقة الابداع التي اقامها ملك الاردن.
جرأة فى التعبير
وفى فرنسا نشر رسومه فى عدد من الصحف منها جريدة “المحرر” وكانت معنية بالدفاع عن الحريات، وكانت رسومه الكاريكاتورية ورسوم زميله حبيب حداد رسام جريدة الحياة اللندنية، تزعج رئيس التحرير لما بها من جرأة شديدة، وبالرغم من ان المحرر جريدة تقليدية او بالاحرى قومية، إلا ان الرسامين لم يكن يهمهم الحكومات، وكذلك كانت رسوم البهجوري فى جريدة الوطن العربي اللبنانية التى كانت تصدر فترة السبعينيات من باريس، تحمل كما كبيرًا من الحرية، وكان متألقا فى صفحة اسبوعية بالجريدة، والتي ازعجت رؤساء التحرير فى مصر بعد ان ضايقت الرئيس السادات، حيث كان البهجوري متحمسًا لجمال عبد الناصر ولا يزال، مؤكدًا أن رسام الكاريكاتير يجب ان يعتنق الفكر الحر دون النظر للعواقب.
ويؤكد بهجوري، ان رسومه فى عصر مبارك لم تكن خافية، ولكنه نشرها فى كتاب اسماه” الرسوم الممنوعة “.
وقد استفاد بهجوري من الدراسة الأكاديمية فقد درس فى كلية الفنون الجميلة فى الزمالك على يد الفنان الكبير حسين بيكار عام 1955، والذي علمه كل مذاهب الرسم، وأثنى على رسومه مما شجعه على الاستمرار.
وقد عاصر جورج البهجوري بيئات مختلفة فى تنقله من الاقصر فى الصعيد والمنوفية فى الدلتا ثم القاهرة حيث وجدت فى نفسه رغبة فى مشاهدة الكرة الارضية، وهناك عشق خاص بين بهجوري وتجربة بيكاسو فهو مقيم دائم فى متحفه فى الحي الثالث فى باريس، وهو حي شعبي تدخله بعد المرور بعدة حارات.
وقد قدم بهجوري أطروحته فى السوربون لنيل درجة الدكتوراة تحت عنوان “ رسوم بيكاسو وخطوط المصريين القدماء” والتي يدعمها الماضي بخبرته المكتسبة ومعايشته لحياة باريس بكل ما فيها من حرية كاملة بعد أن رسم على الرصيف ليل نهار، وتعددت كراساته او “كارنيه دو فوياج” أو الاسكتشات حتى وصلت إلى 800 كراسة، سجل فيها الحياة اليومية، فوصل إلى مرحلة النضج بعد كفاح طويل من باريس، وكان قبل ان يقدم بحثه للدكتوراه كلما انتهي من لوحة كتب صفحة عنها شارحا توفيقه اواخفاقه فيها كتجربة.
نصائح لـ “ناجي العلي”
وأوضح أنه قابل ناجي العلي، فى مهرجان الكاريكاتور العربي فى دمشق عام 1979، واصفا اياه بظرف الطبع، وانه كان يمشي كما لو كان يقفز إلى أعلي مثل الكنجارو، وكان يفلسف كل شىء او يحوله إلى سياسة، وذكر انه قال له إنه اخذ شخصية” حنظلة” من وحي رسمه لنفسه فى صباح الخير وروزاليوسف، حيث كان يرسم نفسه مع الكاريكاتور مثل حنظلة، فى حجم الميكي ماوس، لكنه صنفه كرمز للنضال الفلطسيني، حتى اصبح من اشهر الكاريكاتورات العالمية، وقد نصحه البهجوري وقتها، نظرا لما كان يلاحقه من تهديدات، بعدم اغضاب الحكومات العربية، واتهامهم بالرجعية ورسمهم اشبه بالحيوانات، والالتزام بالموضوعية دون السباب، حتى انه فى الفترة الاخيرة اكثر من التعليق على حساب الرسم، فاصبحت الفكرة عبارة عن كلام، موضحا ان الكاريكاتير الناجح يعتمد على الرمز ولابد أن يكون مباشرا بدون تعليق، أما التعليق فانه يضعف مجال اللوحة الكاريكاتيرية، وكان ذلك قبل اغتياله بحوالي العامين، وقال له ضع همومك فى العمل الجرافيكي، لخلق الجو الدرامي على رسومه، مع تقوية الفكرة والرسم، وكان العلي مشاركا مع على فرزات ونبيل السلمي و10 رسامين اخرين فى المهرجان تحت اشراف الامانة العامة للصحافيين العرب، وكان عضوا فى لجنة التحكيم، وبذلك استطاع ان يبعد ناجي العلي عن الجائزة، دون دهاء او خبث – على حد قوله – وانما من وجهة نظر انه من كثرة حماسه عمل بطريقة البوب آرت، حيث جاء بمرآة اقل من حجم الصفحة العادية، وكتب عليها بالفلوماستر” مطلوب.. ناجي العلي” وانه لا يعقل ان تأخذ تلك الفكرة جائزة فى الرسم، وبذلك تم الاتفاق على ان تقسم الجائزة على الثلاثة المشاركين” ناجى وفرزات والسلمي” كما اعتبروا ان لوحته والتي تمثل السادات يعانق بيجين، مع ظهور علامات الكذب والنفاق على وجوههما، لوحة دون فك، ويشير البهجوري، الي أن صوت ضميره هو ما يجعله يتحرك نحو جهة او اتجاه فني معين، ويشعر بالسعادة داخله من خلال الكنز او الرصيد الكبير الذي يأخذ منه، موضحا ان هذا امر طبيعي بعد عذاب 50 عاما من الاخلاص فى التحصيل، حيث علم نفسه فى باريس، وكان يشتري كل يوم كراسة ويجلس على المقهي ليرسم الناس من حوله، فى المطعم والسوق والمترو، فجمع بين الرسوم الساخرة
لص اللحظة
أتقن الرسوم السريعة، حتى ان هناك فيلما تسجيليا عن طريقته فى الرسم يسمى” لص اللحظة” بمعنى مقدرته على سرقة لحظة او حركة بخطين بعد ذهاب الشخص من امامه، حيث عرف كيف يلتقطه مثل عدسة المصور، دون “تستيف” الموضوع.
وقال انه عندما اقام فى باريس تخيل ان اهلها سوف يحتفوا به ويرفعونه إلى العالمية، إلا ان من انقذه من الفلس كان محمد الشارح من الشرق، بعد ان كانت اعماله لا تباع فى باريس، بالرغم من انه نجح فى كسب افراد على مستو عال من الفرنسيين، الذين يملأون بيوتهم باعماله،ورغم نجاحه فى الغرب إلا ان الشرق نداه.
واكد انه ليست لديه غربة، ولذلك يسمونه الـ”ميتيك “، وهى اغنية مشهورة للمغني اليوناني جورج موستاكي، والذي كان بالمصادفة جارا له، ويعبر موستاكي فيها عن خلطة الناس معا فى الاسكندرية حيث ولد ونشأ، وتجد فيها الايطالي واليوناني والفرنسي والتركي، والاسباني والافريقي، فلا تشعر بالغربة، فالكل يحس بانه فى كوزموبوليتان، وهو ما يقوم به حينما يذهب إلى بلد غريبة، عندما يدخل مقهى او بار، ويبدأ فى الرسم ويصاحب الناس ويرسمهم، ويهديهم لوحاتهم، وبذلك اصبح “ميتيك” فهو يتحدث إلى الناس بسهولة ويصادقهم دون الاعتبار للشكل او اللغة.
حبل غسيل
وعن نشر لوحاته على حبل الغسيل اوضح ان ذلك يجعل اللوحات امام عينيه، حيث يقرأها كل يوم بطريقة مختلفة، فى مذاكرة للعين لما سوف يضعه ككولاج فى لوحة اخرى جديدة، مؤكدا على اهمية ان يتقارب الروح والجسد فى العمل الفني ويكونا معا دائما.
ورغم انتقاده للفنان الرائد محمود سعيد إلا انه يصفه بانه فنان رائع، ويحكي انه كان جالسا فى مقهى سيليكتيان فى باريس وبينما هو يرسم، تعرف على احد الاشخاص الذي اثنى على رسمه، وعندما علم انه مصريا قال انه صديق لمحمود سعيد، وكان يحضر معه إلى باريس لملاقاة استاذ ايطالي، لتعلم طريقته التقنية فى الرسم، والذي كان حينما يرسم يجسد العنصر حتى تكاد ان تمسكه بيدك، ويلون اشكاله بطريقة تجعله يشبه لمعة النحاس، وان تلك الحكاية اثرت بالبهجوري موضحا ان سعيد تعلم صنعة غلبت على الابداع نفسه، كما انه شخصية انطوائية لا يستطيع مواجهة الناس،وله هيبة كقاض.

التعليقات متوقفه