قضية للمناقشة: الطفولة .. أثمن رأس مال

60

تبين في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة ” اليونيسيف ” أن في مصر ما يزيد على أربعة ملايين طفل خارج المدرسة وهم في سن الدراسة . هذا بينما تتواصل الدراسات الحكومية التي تتطلع لإصلاح التعليم عامة ، والتعليم الجامعي على نحو خاص . فعلى مدى سنوات طويلة خرجت الجامعات المصرية من المسوح التي تصنف وترتب أفضل الجامعات في العالم ومؤخراً فقط وصلت إحدى جامعاتنا الحكومية إلى ما بعد المركز الأربعمائة ضمن الخمس مائة جامعة الأفضل في العالم .

وتجنبت الحكومة المصرية البداية الصحيحة لإصلاح التعليم ألا وهي تفعيل النص الدستوري على تخصيص أربعة في المائة من الناتج القومي الإجمالي للتعليم ، فبقيت ميزانية التعليم أدنى من ذلك كثيرا ، وجرى حسابها بطريقة فهلوية تبين أن هناك إنفاقا متزايدا على التعليم .

ونعرف جيدا أن لتدهور التعليم أسبابا مركبة تتجاوز موضوع الإنفاق وحده ، بدءاً بانقسام التعليم على مستويات كثيرة بين الأجنبي والمحلي ، وهو انقسام يتزايد كل يوم مع نشوء مدارس وجامعات أمريكية وإنجليزية وكندية وروسية وفرنسية وألمانية ويابانية والبقية تأتي ، في داخل هذا الانقسام ذاته يتجلى البعد الطبقي بأوضح صورة، إذ أن مثل هذا التعليم هو للأغنياء فقط ، كما أنه يلبي احتياجات العولمة والشركات متعددة الجنسية التي يعاد فيها إنتاج الإنقسام الطبقي الفادح في المجتمع المصري فهي تقع في مصر وخارجها في نفس الوقت ، وتدفع بقطاع من الشباب المصري إلى الاغتراب كلية عن واقع الملايين المحرومة التي يلقي بها التعليم الوطني بإمكانياته الهزيلة إلى البطالة وعدم القدرة على اللحاق بالعصر .

وهناك أيضا الانقسام بين التعليم الديني والتعليم المدني ، وهما شكلان من التعليم المخصص لأبناء الفقراء ويعاني كلاهما من مشكلات معقدة على رأسها التمويل الشحيح ، ثم المناهج القديمة التي لا تؤهل لسوق العمل والتغيرات سريعة الإيقاع فيه ، وهي كلها قضايا قتلها التربويون بحثا كما يقال ، ولكن الأخطر من ذلك كله هو غياب التوجهات العلمية النقدية العقلانية في كلا الشكلين من التعليم ، فالتعليم الديني يجتر مقولات الفقه القديم دون نقد ، والتعليم المدني يخاصم فلسفة العلم والحداثة ، ويكتظ بالمعارف التي لا يربط بينها رابط ، ولا تعلم الطلاب منهجاً للتفكير ، وتتركهم نهبا لإعلام سطحي ، وتجذر الخرافة في المجتمع كله بعد أن نجح اليمين الديني الذي جرى عزله عن السلطة السياسية في فرض سلطته الذهنية والدينية المحافظة على المجتمع ، وأخذت هذه السلطة تتجذر في ظل تفاقم الحرمان ، وانسداد الآفاق وعجز الملايين عن العيش بكرامة ، في ظل الانقسام الاجتماعي المخيف الذي يغذي الأزمة بملايين الأميين والعاطلين .

وتعود جذور هذه الأزمة العامة في التعليم إلى السياسة ، أي إلى الانفتاح الاقتصادي والليبرالية الجديدة ، والتي أدت من ضمن ما أدت إليه من كوارث إلى إنهيار الصناعة التي تشكل قاعدة أساسية لتطور التعليم ، فحين تؤدي السياسات الاقتصادية إلى تحول البلاد إلى أسواق للبضائع الأجنبية لإنها باتت تنتج أقل مما تستهلك وتصدر أقل مما تستورد يصبح التعليم واكتساب المهارات والمعارف الجديدة شيئا زائدا علي الحاجة ، وتتقلص بالضرورة كل الإمكانيات الموجهة له ، ويجرى قتل الطاقات الابداعية لملايين الشباب في المهد لا فحسب بسبب الفقر والاقصاء ، وإنما أيضا بسبب تراجع الصناعة لصالح التجارة والخدمات من جهة وزيادة الاستيراد من جهة أخرى ، حتى أن المستوردين باتوا يشكلون ما يمكن أن نسميه مافيا تعويض الإنتاج الوطني .

نستطيع إذن أن نرى من خلال هذه الصورة القاتمة المصير المظلم ـ للأسف الشديد ـ لهؤلاء الملايين الأربعة من الأطفال الأميين والمحرومين لا من التعليم فحسب ، ولكن أيضا من التغذية الضرورية لنمو أجسامهم الصحي ، ونستطيع أن نقول أيضا أن وضعا كهذا يغذي جماعات الإرهاب بالمجان إذ يلقي في حجرها بمشروعات ” مجاهدين ” سوف يتطوعون لتدمير المجتمع الذي ألقى بهم لا فحسب خارج المدرسة، وإنما أيضا خارج أي حياة إنسانية ، كذلك سيتحول بعضهم إلى أطفال شوارع عرضة للانتهاك واحتراف الإجرام ليستخدمهم تجار المخدرات ومافيات سرقة الأعضاء البشرية .

وسوف يظل مثل هذا الوضع البائس يتحدى كل أشكال التحايل الحكومي عليه طالما بقينا نعالج مثل هذه القضايا الأساسية بالقطاعي دون سياسة شاملة تعيد النظر في التوجهات الاقتصادية ، فلا تفصل الاقتصاد عن المجتمع أو التعليم عن السياسة أو الفقر عن جذوره ، ولا تتعامل مع العدالة الاجتماعية كأعمال خيرية وصدقات وإحسان فقط ، وأهم من هذا كله أن لا تنظر إلى البشر باعتبارهم زائدين علي الحاجة لأنه رغم كل شيء يظل الإنسان هو أثمن رأس مال.

 

التعليقات متوقفه