لقطات: المعونات الأمريكية:  السم  فى العسل؟

130

 

قررت الولايات المتحدة مؤخرا تعليق معونات عسكرية مخصصة لمصر  بمبلغ حوالى 200 مليون و قطع معونات أخرى اقتصادية و عسكرية  قيمتها 96 مليون دولار نظرا لما وصفته بمخاوف بشأن حقوق الإنسان.  أبدت الحكومة المصرية  استياءها الشديد من هذا القرار، ودافعت عن سجلها فى مجال حقوق الإنسان. بالمناسبة،  تاريخ المعونات الأمريكية لمصر يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضى. و كانت هناك عدة محطات مهمة ، لعل أشهرها وأكثرها إثارة سحب أمريكا عرضها بالمساهمة فى تمويل السد العالى فى 19 يوليو 1956 وتبعها  بريطانيا والبنك الدولى. كما استخدمت أمريكا سلاح القطن وقتها  ضد مصر فدفعت بكميات كبيرة من مخزونها من القطن إلى  السوق العالمية  لخفض أسعاره  والإضرار بالاقتصاد المصرى. كل ذلك كان  للضغط على مصر بسبب معارضتها لمساعى أمريكا آنذاك لإنشاء حلف بغداد.

ومنذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل فى 26 مارس عام 1979، حدثت قفزة كبيرة في المعونات الأمريكية لمصر. و يقدر إجماليها خلال الفترة بحوالي 75-80 مليار دولار، أغلبها عسكرية والباقى  إقتصادية.   ومعروف أن المعونات الأجنبية أداة من أدوات السياسة الخارجية، وهى تستخدم مثل الجزرة أحيانا و مثل العصا أحيانا أخرى لخدمة المصالح الوطنية للدولة التى تقدمها.

و فى إطار من السعى لتحقيق مصالح مشتركة، يكون على الدولة المتلقية أن تتاأكد أن منافعها من المعونات تفوق التكالبف. و هذا يستدعى التدقيق الشديد في الشروط المرتبطة بالمعونات وهى نوعان: شروط مالية (مثل مبلغ القرض وأجله وسعر الفائدة وفترة السماح)، والشروط غير المالية (وهى عادة ما تتضمن تحديد السياسات والأولويات). و كما يتضح من موقف مصر من القرار الأمريكى الأخير، فإن الخطيئة الكبرى فى سياستنا في مجال المعونات هى التركيز على الشروط المالية وإهمال الشروط غير المالية. و فى هذه الحالة،  فإن المعونات تكون أشبه بالسم فى العسل.

لتأكيد هذه النقطة الحاسمة، نتوقف عند مشروع أسمنت القطامية الذى وقعت إتفاقيته فى 28/9/1978. تتيح الإتفاقية للحكومة المصرية الحصول على قرض ميسر بمبلغ 95 مليون دولار لتمويل إنشاء مصنع لإنتاج الأسمنت في القطامية  بواسطة شركة أسمنت السويس (و كانت وقتها قطاعا عاما). الشروط المالية للقرض ممتازة؛ حيث تقدم أمريكا لمصر مبلغا معتبرا بالعملة الصعبة و بسعر فائدة أقل بكثير من أسعار السوق وتقسيط السداد خلال مدة طويلة بعد فترة سماح معقولة. وهذا هو العسل. فماذا عن السم؟ إنه يكمن فى الشروط غير المالية للقرض. خذ عندك بعض هذه الشروط : يقدم الجانب المصرى خطة سنوية لتوزيع الأسمنت توافق عليها هيئة المعونة الأمريكية ((USAID؛ يُجرِى الجانب المصرى مشاورات دورية مع الـ USAID لتسعير الأسمنت؛ تبيع حكومة مصر ما لا يقل عن 20% من أسهم الشركة للقطاع الخاص وتبيع ما قيمته 4.6 مليون دولار من أسهم القطاع العام للمستثمرين.

نلاحظ أن مضمون الشروط غير المالية إعطاء الجانب الأمريكى حق التدخل فيما هو من أعمال السيادة الوطنية المصرية، بل و توجيه الأمور بما قد يضر بالأمن القومى لمصر! فالقرض مجرد تمويل جزئى لمشروع لإنتاج الأسمنت، و لكنه يعطى الأمريكان حق التدخل فى تسعير الأسمنت- كل الأسمنت و ليس فقط  من إنتاج المشروع.  أليس تسعير الأسمنت من أعمال السيادة الوطنية؟  والقرض يخلق  للأمريكان ذريعة لفرض الخصخصة وتصفية القطاع العام- يعنى إعادة صياغة نظامنا الإقتصادى. و القرض أيضا يعطى الأمريكان حق النقض (قيتو) بالنسبة لتوزيع الأسمنت على مستوى الجمهورية- يمكنهم من الاعتراض على توجيه الأسمنت لمنطقة محددة (كسيناء مثلا) أو لغرض  معين (مثل بناء تحصينات دفاعية أو الاستثمار فى مشروعات إستراتيجية). أليس هذا خطرا على أمننا القومى  وتدخلا فى  تحديد أولوياتنا؟ أذكر أننى وجهت هذه الأسئلة إلى عضو بارز فى البرلمان وقتها هو المرحوم الدكتور حلمى مراد، مبديا إندهاشى لموافقة البرلمان على شروط بهذه الخطورة فأجابنى  أن الحكومة عند عرض الاتفاق  سَلَّطت الضوء على المزايا المالية (العسل) و أهملت الشروط غير المالية (السم)، فوافق البرلمان بالإجماع!

إعتذار واجب: مَرَّ علينا كأن لم يكن. إنه عيد الفلاح الذى صادف السبت الماضى 9 سيتمبر. نسي الجميع هذه المناسبة العظيمة فى غمرة الإنشغال بالمعونات والعقارات والانتخابات. عزيزى الفلاح، حقك علينا و مقامك فوق رأسنا.

تعليق 1
  1. مصطفى سامى يقول

    سيادتك تذكران(تاريخ المعونات الأمريكية لمصر يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضى), ياسيدى مصر تتلقى معونات أمريكيه منذ الأربعينات وليس الخمسينات, والنقطه الرابعه كانت فى الأربعينات وليست الخمسينات, ثم قطعها ليندون جونسون تماما فى منتصف الستينات, وقال لهم عبدالناصر كلمته الشهيره, (ع الجزمه)

التعليقات متوقفه