ضد التيار: الموت لا يضع حدًا لخصومة وليس صك غفران

47

 

أشفق على من يشمتون في موت خصومهم ، لسبب بسيط أن الشماته مظهر من مظاهر الضعف ودلالة على صغر النفوس التي تتملكها تلك المشاعر الغرائزية البدائية .

وما يدعو للدهشة في ظاهرة الشماتة في الموت أنه قد ساد بين العرب في المعتقد الديني والشعبي أن الشماتة سلوك غير متحضر وغير محترم ، ولا يجوز أن يصدر عن إنسان حسن الطوية ، يمتلك منظومة من القيم الخلقية والسلوكية ، التي تحول بينه وبين التعبير علانية عن مشاعر بدائية فجة من هذا النوع .

في الموروثين الديني والشعبي اللذين تتوارثهما الأجيال العربية ، يعد إظهار الشماته- فيما يصيب الخصوم من أمراض وكوارث تصل إلى ذروتها إلى الموت – أمرًا لا يليق بالإنسان السوي ، ولذلك يكثر العرب ومنهم المصريون من الاستشهاد بمؤثرات دينية وشعبية بينها أن الميت لا تجوز عليه سوى الرحمة ، واذكروا محاسن موتاكم ، ولا شماته في الموت .. إلخ .

وفي عدة أسابيع متتالية ، غادر عالمنا شخصيات عامة تنتمي إلى تيارات سياسية وفكرية متناقضة ، ولكل منها من يتحيز لرأيه ، أو يرى أن مسيرته في الحياة كانت في مجملها إيجابية ، بينما يرى آخرون العكس ، وكان لافتا للنظر أن البعض قد تجاهل القيم التي تعكسها تلك المؤثرات الدينية والشعبية ، فاندفعوا يعبرون عن شماتتهم فيما أصاب خصومهم السياسيين برحيل هذا القطب أو ذاك ، ويعبرون علنا عن فرحتهم وشماتتهم في غيابه عن الساحة السياسية ، ومن الغريب أن هذه الظاهرة الخالية من أي حس إنساني تحدث داخل التيار الواحد ! .

أخر ما حدث في هذا السياق هو الضجة التي أثيرت في أعقاب رحيل المرشد السابق للإخوان “محمد مهدي عاكف” حيث جرت عملية توظيف سياسي لموته ، اختلط فيه الحابل بالنابل ، وانتهز الإخوان الفرصة ، لكي يتهموا السلطة القائمة بأنها قتلت الرجل ، وأن الجماعة بصدد إقامة دعاوى قضائية أمام المحاكم الجنائية الدولية ، واستغلت المناسبة للقيام بحملة دعائية عنيفة ، تتهم السلطات الحالية بأنها خططت للتخلص منه ، باهمال علاجه ، وهو كلام من الصغائر الكثيرة التي تروج لها الجماعة وتكذبه شواهد كثيرة ، أبسطها أن المرشد الراحل مات في أحد المستشفيات العامة التي كان يعالج فيها على نفقة الدولة ، وأن لا أسرته ، ولا هو شخصيًا قد شكا من تعرضه لأي لون من العسف في المعاملة ، أو الإهمال في علاجة ، وكأن الإفراج عنه ـ كما تطالب جماعة الإخوان ـ هو العلاج الوحيد الذي كان سيشفيه من مرض عضال ، ألم به وهو مقبل على عامه التسعين .

لجأت جماعة الإخوان إلى عاداتها المعهودة ، حين وظفت الموت لأهداف سياسية ، وتبارى معها في غيها بعض الإعلاميين من الأطراف الأخرى في الساحة السياسية الذين يتصورون أنهم يدافعون عن الحكومة ، فاندفعوا يعبرون عن شماتتهم ، ويستخرجون صحيفة سوابق المرشد الراحل السياسية ، ويعبرون بفجاجة عن سعادتهم برحيله ، ولا ينسبون له أية فضيلة .

أخطأ الطرفان في حق الحس الانساني السليم ، وكان على كل منهما أن يتأمل التقاليد الثقافية والدينية التي توصيه بأن يتذكر محاسن موتاه ، وأن يدرك أن الشماتة في مصائب خصومهم لا تصيب من يرحلون منهم عن الدنيا ، بقدر ما تصيب أسرهم وأصدقاءهم والمنتمين إلى التيار الذي كان ينتمي إليه .

وصحيح أن الموت قد يضع حدًا للخصومة ، لكنه ليس صك غفران ، لما قد وقعت فيه الشخصية العامة من أخطاء لا يقتصر ضررها عليها ، بل يطول الفضاء العام ، ويؤثر في حاضر ومستقبل أمم وشعوب ، وهو ما يتطلب أن يسعى المتتبع لرحلة هذه الشخصية العامة أن ينقي مشاعره من نوازع الثأر والتشفي البدائية ، وترك جرد الحساب النهائي للشخصيات العامة إلى مرحلة تبتعد عن العواطف الملتهبة سواء كانت حزنا أو شماته أو مبالغة في المناقب .

التعليقات متوقفه