ثقافة منزوعة النوى

167

رغم اقتران جدلية السلطة والثقافة فى العصر الحديث بوقائع تاريخية، منها قضية المجند اليهودي درايفوس فى فرنسا، إلا أن هذه الجدلية بدأت منذ أقدم الأزمنة، وهي فى أقصى تجلياتها ومفاعليها تعبير عن صراع بين المعطى والممكن، وبالتالي بين الواقع المهيمن والحلم بتجاوزه، وقد ساهم المثقفون فى صياغة صورتهم لدى السلطة، لأنهم منذ أول احتكاك بها يتعرضون لأعسر اختبار معرفى وأخلاقي فى حياتهم، فإما الرسوب أو النجاة التي قد تكون فى مثل هذا السجال أعز من كل النجاحات.
وقدر تعلق هذه الظاهرة بالمثقفين العرب فإن أول احتراز ينبغي تسجيله، هو عدم الحكم بالجملة عليهم، لأنهم غير متجانسين، سواء فى منسوب الوعي أو فى الانتماء لشريحة، أو طبقة فى المجتمع، خصوصا أن لدينا فى تاريخنا استثناءات تصلح أمصالا للقاحات تعزز المناعة ضد الإصابة بفيروس القطعنة والامتثال والتأقلم مع الاستبداد!
وسأكتفى فى هذا المقام بثلاثة أمثلة تجسّد ثلاثة مستويات من تعامل المثقف مع السلطة، وأول هذه الأمثلة هو عباس العقاد الذي انتخب فى العهد الملكي نائبا فى البرلمان، وقال عبارته الشهيرة، إنه لن يتردد فى أن يدوس على أي رأس يتلاعب بالدستور، وحين حاول الوشاة من محترفى التزلف للسلطة إحراج العقاد، كتب أحدهم إنه يقصد الملك فؤاد الأول، وحين سئل العقاد عن ذلك، أجاب بأن عبارته واضحة ودقيقة ولا تقبل أي تأويل.
وحين منح الرئيس عبد الناصر، جائزة الدولة للعقاد بحضور شوين لاي، قال أيضا إنه يقدّر من يقدره وبذلك كان يعبر عن سلطة المثقف بلا مواربة، وحين سُجن العقاد فى عهد فؤاد الأول، كان باعة الصحف فى شوارع القاهرة ينادون على المارة بصوت عال قائلين إقرأوا ما كتبه العقاد اليوم، رغم أن العمود الذي كان يكتبه العقاد مساحة بيضاء لكنها موقعة باسمه!
والواقعة الثانية رواها لي الصديق الراحل السيناريست محفوظ عبد الرحمن، عن مثقف كان يعمل إلى جوار عبد الناصر فى بدايات ثورة يوليو/تموز، وكان اسمه فاروق، وحين غاب بضعة أيام سأل عنه عبد الناصر فقيل له إن زوجته دخلت المستشفى للولادة، وحين التقاه بعد ذلك هنأه على المولود الجديد، فأجاب المثقف إنه ذكر وقد سماه جمال، وصمت عبد الناصر قليلا لكنه فاجأ الرجل قائلا له أنت مصرّ إذن أن تكون منافقا كأبيك فالأب سمى فاروق فى عهد فاروق والابن سمى جمال فى عهد عبد الناصر.
والواقعة الثالثة، كانت فى إحدى العواصم العربية العريقة، وكان رئيس الجمهورية معجبا منذ صباه بممثل مسرحي، وحين استدعاه ليكــــرم المســــرح من خلاله سأله، ما الذي يحتاجه المسرحيون فى بلاده ولم يتردد الممثل فى أن يطلب بيتا شخصيا لأسرته، فقال الرئيس بعد أن شعر بالإحباط لأحد مساعديه أعطوا لفلان بيتا لكن لا أريد أن أراه مرة أخرى.
إن صورة المثقف العربي أمام السلطة، أو ذاكرتها تستدعي تأملات لا آخر لها، فما أن يتاح لمثقف الاقتراب من السلطة حتى يسيل لعابه، ويتحول إلى شاهد زور ورقيب مقابل ما يطمح إليه من مكاسب، سواء كانت معنوية كالمناصب أو مادية! وربما لهذا السبب تصاب السلطة فى العالم العربي بصدمة حين تجد نماذج مضادة، ويضيق صدرها وتختنق لمجرد أن هناك من يقول ما يفكر به ولا يتزلف استرضاء وتقربا وتطلعا إلى مكسب.
إن الثقافة شأن كل الأنشطة والحراكات عرضة للإصابة بعدوى تلوث الضمير، وكم من مثقفين وشوا بزملاء لهم وكانت أدسم وجباتهم من لحمهم ودمهم ودموعهم! وصدق المثل الشعبي القائل سوس الخشب منه وفيه، لأن الخشب قابل لأن يصبح قيثارة أو كعب بندقية أو مهدا أو تابوتا أو قبقابا، وهكذا حال الثقافة وغاباتها.
والمثقف العربي الذي يتذمر ولا يكف عن الشكوى من التجاهل واللامبالاة، وأحيانا الازدراء، عليه أن يبحث عن السبب لكي يبطل العجب، فمن سبقوه نسجوا صورة شملته رغما عنه، وسوف تشمل السلالة كلها، ولأن المثقف الحقيقي القابض على الجمر بأصابعه ولسانه معا بلا قاعدة شعبية، فهو ملقى على القارعة، ويحتاج إلى قدر من الإرادة والبسالة والمناعة الفذّة، كي يبقى على قيد ذاكرته ووعيه، وبمقدور أي باحث عربي غير مرتهن أن يقدم قائمة طويلة من أسماء مثقفين خضعوا للتسعيرة، فمن يتمنع لاعتقاده بأنه يستحق سعرا أعلى، يبحث عن أقرب فضائية أو مذياع ليعلن التوبة.
وهنا أتذكر ما سمعته ذات يوم من مثقف عربي وهو أنه بلغ سن الرشد عندما أدرك أنه كان طوال حياته يغمس خارج الصحن، وكانت القطفة الأولى لبلوغه سن الرشد حصوله على وظيفة فى إحدى سفارات بلاده، لكنه لم يصبح دبلوماسيا ذا قيمة، وتوقف عن الكتابة وأصبح المنبتّ الذي لا سلطة قطع ولا ثقافة أبقى!.
إن من سبقونا من المثقفين مع الاعتذار للاستثناءات هم المسؤولون عن هذه الصورة الشائهة وعن تسعيرة المثقف فى كمبيوتر السلطة!.

خيرى منصور

التعليقات متوقفه