قضية للمناقشة: التفكير من خارج الدين

142

نجح المشروع السياسي الثقافى للرأسمالية الاحتكارية فى فرض صراعات الهوية فى منطقتنا، وتهميش كل من الصراع الوطني والصراع الاجتماعي. ودليل هذا النجاح هو اندلاع الحروب والطائفية والدينية والعرقية فى كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، وهي البلدان التي تدفقت عليها الأسلحة والمقاتلون المرتزقة من كل أنحاء العالم رافعين الرايات الدينية، والإعلاء من شأن الهويات الصغرى ما تحت القومية على حساب الهوية الوطنية واستبدال التضامن بين الشعوب ضد الامبريالية والصهيونية بالإخوة الدينية أو الطائفية التي من شأنها التعتيم على الاستغلال الطبقي والنزعات العنصرية لتكون إسرائيل هي الرابحة فى منطقتنا فتصول وتجول بحرية فى الارض الفلسطينية التي اغتصبتها واحتلتها، وتنكل بشعبها وتواصل بناء المستوطنات وهدم بيوت الفلسطينيين وطرد المزيد منهم، وغنى عن البيان أن كل ما حدث لنا استند إلى تواطؤ الرجعية العربية مع المشروع الامبريالي.
ومولت الرأسمالية الاحتكارية مشروعها الإمبريالي وهو عنوان أزمتها الكبرى بأموال النفط العربي من دول الخليج، وأبرز مثال على ذلك هو نصف التريليون من الدولارات (500 مليار) والتي دفعتها السعودية لترامب خلال زيارته لها فى مايو الماضي.
وتفصح هذه الحقائق بوضوح بالغ عن نجاح هذا المشروع الرجعي والمتوحش فى إرساء مجموعة من الركائر للانطلاق منها إلى المرحلة الجديدة التي تقوم على تفتيت الدول الوطنية إلى كانتونات صغيرة على أساس الهويات الصغرى فيها لتتصارع فيما بينها وتنسى تماما مفهوم الدولة الوطنية والعدو المشترك الذي كان إسرائيل والصهيونية فى الماضي القريب، وأصبح الآن الشيعة وإيران.
لم يمنع هذا الوضوح فى الاستراتيجيات والأهداف من انخراط جماعات من المثقفين بينهم مثقفون نقديون فى هذه الصراعات طبقا لأصولهم الدينية أو الطائفية أو العرقية، وقام هؤلاء بالإفاضة فى تقديم المبررات التي جعلتهم يزيحون العناصر الجامعة للهوية الوطنية والقومية إلى الوراء، وكأنهم يقومون دون وعي بالمشاركة فى تنفيذ المخطط الامبريالي.
كيف نحارب التطرف إذن ؟ ذلك هو السؤال الذي يطرحه الواقع المرير علينا جميعا بعد أن تفاقمت العمليات الارهابية باسم الدين، واتسع نطاقها لتشمل العالم كله تقريبا، والمقصود بالدين هنا هو الدين الإسلامي رغم أن كل الديانات سواء مسيحية أو يهودية، بوذية أو هندوسية قد ولدت أشكالا من التطرف والعنف وإن لم يبرزها الإعلام الإمبريالي الذي يتحكم فيما يزيد على الستين بالمائة من وسائل الإعلام.
ومؤخرا فقط برز التطرف بل والعنصرية البوذية حين انفجرت قضية المسلمين الروهينجا فى بورما، وعرف العالم كله شكلا جديدا للعنصرية والتعصب الذي طرد المواطنين من بلادهم على غرار ما فعلت الصهيونية بالفلسطينيين قبل ما يزيد على ستين عاما.
وبدلا من القيام بنزع الغطاء الديني الزائف عن صراعات المصالح لاقتسام ثروات الشعوب واستنزافها، وصولا إلى إعادة الاستعمار العسكري إلى الحياة… بدلا من ذلك يسعى مثقفون عقلانيون مرموقون إلى خوض المعركة مع اليمين الديني على أرضية هذا اليمين نفسه بالعودة مثلما يفعل هو إلى الماضي، بإدعاء أن ما يجري استلهامه من هذا الماضي هو النزعات التقدمية فيه، هذه النزعات التي جرى تهميشها على امتداد التاريخ العربي والإسلامي. ورغم الأهمية البالغة لما يقوم به هؤلاء فى ميدان الرؤية التاريخية الموضوعية لتراثنا، إلا أن هذا الإبقاء على الصراع دائرا على أرضية الفكر الديني، وما يسمونه هم صحيح الدين يعمل على تهميش وتغييب القضايا الأساسية، تلك القضايا التي بلورتها بصورة عبقرية موجات الانتفاضات والثورات فى السنوات العشر الأخيرة، ولنذكر مرة أخرى أنه خلال المظاهرات المليونية فى 25 يناير 2011 وفى 30 يونيه 2013، وفيما بينهما من أشكال الاحتجاج الجماعي لم يجر طرح شعار ديني واحد، وقد بلور المتظاهرون المطالب فى الشعارات الخمسة كالتالي : عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية دولة مدنية، وكأن الجماهير المصرية المسكونة بروح الاحتجاج على الظلم والاستغلال، وعلى الاستبداد والفساد كأنها سبقت مثقفيها فى طرح الرؤية العلمانية الديموقراطية ذات المضمون الاجتماعي الواضح على جدول أعمال المرحلة، ولم تجد نفسها مضطرة لأي سبب من الأسباب على التراجع عن هذه الأهداف أمام ضغط اليمين الديني، ولم تكن مضطرة أيضا لخوض معاركها الكبرى على أرضيته، وهي تجتذب إليها غالبية القوى الاجتماعية والديموقراطية فى المجتمع المصري، هذه القوى التي يستهين بعض المثقفين بقدرتها على التكاتف والنضال والعمل المشترك والجرأة على التفكير من خارج الدين، وهي المتدينة بشكل فطري سليلة هؤلاء الذين كانوا قد بلوروا الشعار الرئيسي للثورة الوطنية الكبرى عام 1919 «الدين لله والوطن للجميع».
التفكير من خارج الدين هو ما يخافه هؤلاء المثقفون الذين إختاروا إبقاء المعركة مع اليمين الديني المسنود أمبرياليا إبقائها على أرضه هو فتكون النتيجة المنطقية أن يظل هو الأقوى بأمواله ومرجعياته، وتظل الرؤية الموضوعية العلمية التاريخية للدين هشة هامشية وعاجزة عن الانتشار من أجل تغيير الوعي، وإزاحة الوعي الزائف الذي ساعدت على انتشاره سياسات الليبرالية الجديدة، وثقافتها التجارية الاستهلاكية البائسة التي لم تتسبب فى انتشار الجوع المادي فحسب وإنما أضافت إليه الجوع الروحي والثقافى فضلا عن الانحطاط الاخلاقي.
إن المثقفين النقديين وهم مدعوون لمواجهة التطرف مدعوون أيضا للتعامل مع الجذور الاجتماعية الاقتصادية الفكرية لنشأته كبديل عن التحرر، وهي قضية محورية تضع مسألة إستخدام الدين فى هذا الصراع فى مكانها الصحيح من الصراع الأشمل ضد الرأسمالية الاحتكارية التي ولدت منها الإمبريالية، والتي هزمت حركة التحرر والحقت بلدانها بمشروعات التبعية الشاملة اقتصاديا وثقافيا باسم العولمة.

التعليقات متوقفه