الطبقة الوسطى الجديدة بين بناء رأس المال المعرفى وتكوين المهارات

209

فى أواسط القرن العشرين وأوائل الستينات منه، بدأ مركز الاهتمام يتحول من “الآلات والمعدات” بالمعنى التقليدي إلى بناء البشر المنتجين لها والعاملين عليها، فأخذ يظهر ثم ينتشر مصطلح “رأس المال البشري”، على اعتبار أن البشر يقوم عليهم – وليس على الآلات فحسب –عبء العملية الإنتاجية، امتدادا للمفهوم القائل بأن (العلم قوة منتجة). و انتشر مصطلح (رأس المال المعرفي)، مصاحبا لجملة مسميات أخرى معبرة عن متغيرات مهمة، مثل (اقتصاد المعرفة) و(الاقتصاد الجديد) و(منظومة الابتكار).
ونتيجة لذلك، فإنه بينما كان مفهوم الملكية، فى السابق، ينصرف إلى ملكية أصول إنتاجية “عينية” وخاصة الأراضي والعقارات و أدوات الإنتاج الصناعي، وكان (الذين يملكون) هم أصحاب هذه الأصول، أي ملاك الأرض والعقار والمصانع، فقد غدا الاتجاه ينحو إلى اعتبار أن (الذين يملكون) هم الذين اكتسبوا المال، وملكوا معه، وبه، ناصية العلم والمعرفة الحديثة وقوة المهارة الابتكارية الخلاقة. وأصبح هؤلاء عماد النشاط المحموم للاقتصاد العالمي: من خبراء الحاسبات والبرامج الحاسوبية وتقنيات الاتصال، إلى الأطباء المتخصصين، وإلى أصحاب المكاتب العاملة مع الشركات الكبرى ذات المساهمة الأجنبية، وفروعها الخارجية فى مجالات المصارف والمحاسبة والمحاماة والاستشارات والمقاولات والهندسة
و تكمن القوة الاجتماعية الحركية فى سياق الاقتصاد المعرفى البازغ، على مستوى العالم، وعلى مستوى الدول العربية، في(الطبقة الوسطى) إلى جانب شرائح متزايدة من العمال او العاملين بتعبير أعم.
البعد الدولي للتغيير
ارتفعت نبرة الحديث عن (اقتصاد المعرفة) الذي يقوم على التحول من المعلومات والمهارة إلى المعارف والابتكار. وجرى تناول ( المنظومة الوطنية للابتكار) كمفهوم جديد يحل – فى العالم المتقدم- محل المفهوم السابق للمنظومة العلمية-التكنولوجية. كما جرى تناول (القدرة التنافسية الوطنية) قرينا للعولمة، وربما بديلا عنها.
كل ذلك قد حدث، ولم يكن بدٌّ من أن يمس الاقتصادات العربية، بدرجات متفاوتة، من حيث الاهتمام بالآفاق الجديدة التي يفتحها العلم والتكنولوجيا، وخاصة فى ميدانين مهمين:
أ- ميدان تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، حيث الحاسبات و”الإنترنت”، وشيوع الموجة الإلكترونية الرقمية فى تصنيع الأجهزة، فى سياق ( الثورة الرقمية) وبالتالي: (الفجوة الرقمية) وليس فقط (الفجوة العلمية والتكنولوجية) بين العالمين النامي والصناعي.
ب- ميدان (ثورة علوم الحياة) وتطبيقاتها فى الصيدلة والدواء وفى الصحة والطب، والوقاية والرعاية والعلاج.
لذلك كله، اهتمت الشريحة الجديدة من الطبقة المتوسطة و العاملة بما تفرضه التطورات العلمية والتكنولوجية: الحاسبات والشبكات، ولغات أهل الحاسبات والشبكات، وفى مقدمتها الإنجليزية، بالإضافة إلى العلوم الهندسية؛ كما جرى اهتمام موازٍ بتعلم علوم الحياة والوراثة والطب.
وقد تمكنت هذه الشرائح من السيطرة على (عرض المهارات النادر) وفى مقدمتها، كما أشرنا: الشرائح ذات المهارات المهنية واللغوية فى مجالات الطب والصيدلة والهندسة والقانون والمحاسبة.
ومن المهم أن نشيرفى هذا المجال مرة اخرى إلى تلك الحقيقة المتعلقة بالتفاوت بين أبناء المجتمع الواحد، خلال العقود الأخيرة، من حيث تكافؤ الفرص فى العيش والتعليم والتدريب والتأهيل وعالم الشغل.
من هنا، يجب على قوى المجتمع العربي الحية، من ثنايا السلطة العامة والقطاع المدني والفئات الاجتماعية المختلفة، العمل على معالجة التفاوت الاجتماعي، فى مضمار اكتساب القدرات التعليمية والصحية، واكتساب فرص العمل اللائقة، لكل الشرائح الاجتماعية، من أجل اللحاق بعالم العمل الجديد.
تكوين المهارات
إن تأمل الأحوال الاجتاعية فى الدول العربية يمكن أن يصل بنا إلى نتيجة صادمة للكثيرين،وهي أنه لم يحدث انهيار للفئات الوسطى للمجتمع، فى حقيقة الأمر، وإنما تغير تكوينها الداخلي وأصولها الاجتماعية، وحدث تبدل فى (الأوزان النسبية) لمختلف جماعاتها الفرعية.
لقد انخفض وزن الفئات (النبيلة) القديمة، والتي كان يسمى أفرادها (أصحاب الدم الأزرق)، من الموظفين والمثقفين و(أبناء الأصول)، على حد تعبير البعض، والمنحدرين من الوجهاء و(الأعيان) القدامى فى المشرق والمغرب العربيين. ولكن فئات جديدة سرعان ما بزغت، وسرعان ما اشتد عودها، قادمة جحافلها الكثيفة من البوادي البعيدة والأرياف القصية ومن القرى النائية عن المركز ومن أطراف الصحراء ومن جوفها أيضا. هنا، البدو الجدد والفلاحون الجدد، وأبناء البدو القدامى والفلاحين القدامى، صاروا الملوك المتوجين، بغير تاج، يجوبون نواحي الحضر والمدن العريقة نازحين من مواقع سكناهم العريقة، باحثين عن الرزق فى المصانع ومواقع الخدمات الحديثة، يمارسون مِهَنا لم يمارسها آباؤهم، ويقلّبون وجه العواصم العربية، ويغيرون حياتها تغييرا.
الفضاء الفسيح
لقد نشأت إذن طبقة وسطى جديدة، من ذوي (الياقات الزرقاء) السابقين ومن صلب المجتمع الذي بقي على الهامش قرونا بعد قرون.
وفى بعض تقارير البنك الدولي يدق ناقوس جديد، ليضيف فوق ما علمناه علما جديدا : إن الطبقة الوسطى تنتقل من المحلية إلى العالمية. أفراد وشرائح هذه الطبقة يتنقلون من بلد إلى آخر، بالطائرات الأسرع من الصوت، أو يشتغلون وهم قابعون فى أماكنهم، وحيث هم، يبعثون بناتج عملهم عبر الفضاء السيبراني الفسيح، عن طريق شبكة (الإنترنت) ومن خلال “العمل من بُعد”. يعملون فى مهن جديدة، لم يعرفها آباؤهم وربما لم تخطر على ذهن بشر: خدمات الحاسبات الآلية والاتصالات والطب والعلاج البيولوجي والصيدلانيات غير الكيميائية، والهندسة الوراثية، و(المواد الجديدة) ومصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، والتكنولوجيا المصغرة (النانو) واستخدام الآليات الرقمية كالذكاء الاصطناعي والروبوت وإنترنت الأشياء.
ورأس المال الذي يملكه هؤلاء الأفراد وتلك الشرائح الاجتماعية ليس كأي رأسمال نعرفه.. ليس مالا أو نقودا، ليس بأرض أو إرث وما هو بعقار أو بسهم مالي “طائر” عبر أسواق المال فى شركة من شركات المساهمة أو غيرها.. وإنما رأس المال الجديد هو العلم العصري القابل للتطبيق، والمعرفة المتجددة والقدرة على الابتكار. إنه “عنصر المهارة”؛ أو هو (العمل الماهر الابتكاري) باختصار.. ولكن هل يملك كل أفراد المجتمع الدولي والمحلي فرصة متكافئة للالتحاق بركب “الطبقة الوسطى العالمية”..؟
اتساع الفجوة
هنا يتبدى الوجه الآخر للعولمة. فإن نشوء طبقة وسطى عالمية، ولو مجازا، وتبلوُر سوق عالمي للعمل وللمهارات، لا يعني أنها عولمة مفتوحة الفرص للجميع على قدم المساواة. ويعاود البنك الدولي التذكير بهذه الحقيقة، فى عديد تقاريره، قائلا إن من المرجح ألا يتم توزيع منافع العولمة توزيعا متساويا، سواء كان ذلك بين أقاليم وقارات العالم المختلفة، أو فى داخل كل دولة على حدة. ويذكر فى هذا المضمار أنه مع نشوء ما يمكن اعتباره طبقة وسطى عالمية فإن بعض الجماعات الاجتماعية سوف تتقهقر إلى الخلف أو يتم تهميشها. وتتمثل هذه الجماعات بصفة خاصة فى العاملين غير المهرة، فى ظل تسارع التطور التكنولوجي، و أن 80% من سكان الدول النامية( باستبعاد الصين)، سوف يعانون من التدهور فى عدالة توزيع الدخل، بسبب اتساع (فجوة القدرات) بين العاملين المهرة والعاملين غير المهرة. وسوف تعم هذه الفجوة نحو ثلثي البلاد النامية؛ وأكثر من يتعرض لهذه المعاناة هن الفتيات، نظرا لحرمانهن من فرصة التعليم النظامي فى عدد غير قليل من هذه البلاد.
توتر شديد
حقيقة مهمة إذن من حقائق الاقتصاد السياسي الدولي، أن أسواق العمل الدولية والمحلية أصبحت تعاني من ازدواجية واضحة: سوق للمهرة، عالية العائد وكثيرة المنافع، وسوق لغير المهرة، منخفضة الأجر و ذات منفعة محدودة، إن وجدت. وبرغم الازدواجية فى البنية التكوينية لسوق العمل، فإن هذه السوق فى بعدها الدولي، على النطاق الجغرافي، تزداد اندماجا. ولتفسير هذه النقطة يشار إلى بعض نتائج سهولة تنقّل البشر بغرض العمل، وسهولة نقل السلع والخدمات التي أنتجها العمل. غير أن الاندماج يتبعه توتر شديد. حيث توضع الفئات المشتغلة فى المنشآت الإنتاجية من أبناء البلدان النامية الأقل تطورا تحت ضغط قوي، بفعل المنافسة الدولية غير المتكافئة.. ويمكن لنا أن نستنتج مما سبق، أن مقابلة تحديات المعرفة والمهارة، والتكوين التعليمي والتدريبي، فى الإطار الاجتماعي الشامل، مرهونة بتقليص فجوات الدخول والقدرات بين أبناء المجتمع الواحد، وبين المجتمعات وبعضها البعض.

د.محمد عبد الشفيع عيسى

التعليقات متوقفه