لقطات: عيد النصر والذاكرة الوطنية

265

أتحدث اليوم مجددا عن الذاكرة الوطنية، وهو موضوع يشكل بالنسبة لى همّاً وتَسْهِيداً. ولذلك كتبت فيه عدة مرات. ولعل بعض القراء ما زالوا يتذكرون كتابى حول هذا الموضوع والمعنون “إحياء ذاكرة المصريين”، والذى نشرته دار العين للنشر أوائل عام 2016. وأُشير هنا بالذات إلى مقال فى هذا الكتاب بعنوان “إنعاش الذاكرة الوطنية” جاء فى استهلاله أن “الأمم تنهض بالتاريح، و الشعوب تحيا بالذاكرة”. وهناك أحداث كثيرة فى الأسابيع الأخيرة دعتنى لفتح هذا الموضوع مجددا. فها هو عيد النصر قد مر كأن لم يكن. وها هو وزير المالية يبشرنا بطرح الشركات الحكومية فى البورصة. وها هى وزيرة الاستثمار تتباهى بجمع التمويلات. و ها هم المسئولون مشغولون ببناء العاصمة الإدارية الجديدة و يهملون أكثر من ألف سنة من تاريخ قاهرة المعز! فهل نحن نعانى من ألزهايمر وطنى والعياذ بالله؟
أولا: عيد النصر 23 ديسمبر. أقول لشعبنا كل عام و نحن جميعا بخير. لكن، أحزننى كثيرا أن هذه المناسبة مرت دون أن يتذكرها أحد. أتحدث عن ذكرى جلاء آخر قوات العدوان الثلاثى عن تراب الوطن المُفَدَّى فى مثل هذا اليوم عام 1956، بفضل تلاحم الشعب و الجيش و استبسال بورسعيد (ستالينجراد الشرق). مضى على هذا الحدث العظيم 62 عاما- يعنى ثلاثة أجيال من المصريين تعاقبت منذ ذلك التاريخ. و لكن يبدو أن هناك ما جَرَّف ذاكرة الأحفاد؛ فلم تعد تستوعب شيئا من إرث الأجداد. هذا أمر جد خطير. جميل أن يتم اختيارهذا اليوم لافتتاح عدد من المشروعات الكبرى. و لكن احترام التاريخ و مقتضيات إحياء الذاكرة الوطنية كانت تستوجب أن يُطِلَّ الرئيس على الأمة بهذه المناسبة فى خطاب، و أن يوضح للناس أننا نعيش على الأرض التى حررها الأجداد وأننا نعمرها لمصلحة الأبناء و الأحفاد.
ثانيا: الخصخصة. دليل آخر على فقدان الذاكرة ما جاء فى جريدة الأهرام الغراء يوم السبت الماضى. فبدلا من التذكير بعيد النصر، نطالع تصريحا (ص 9) لوزير المالية بعنوان “جدول لطرح الشركات الحكومية بالبورصة”. أولا: هذه الشركات ملك الشعب و ليست ملك الحكومة. ثانيا: الحكومة ليس لديها تفويض من الشعب، و لم تستأذنه. ثالثا: أين مجلس النواب من كل ذلك؟ رابعا: كيف ننسى التاريخ الأسود لتجربة الخصخصة فى ظل برنامج الإصلاح الاقتصادى أثناء حكم مبارك؟ إننا الآن، و بعد حوالى ربع قرن، نكرر نفس الأخطاء: فلا ضوابط على سيطرة الأجانب على الشركات التى سَتُطرَح، و لا قيود تحول دون استخدام موارد الطرح لسد عجز الموازنة. فهل المسألة مجرد فقدان ذاكرة لدى المسئولين فى حكومتنا السنية، أم أنها عملية غسيل مخ ممنهجة لأولى الأمر عندنا يخطط لها و ينفذها ما يسمونهم شركاء التنمية؟
ثالثا: الديون. أن السيدة وزيرة الاستثمار تجهل المثل القائل: “الدَّيْنُ هَمٌّ بالليل و مَذَلةٌ بالنهار”. بل إنها تجهل أو تتجاهل كلمة ديون، و تتباهى بأن مصر حصلت على تمويلات من “شركاء اتنمية” قيمتها حوالى 7 مليارات دولار. و هذه بدعة؛ فالجزء الأكبر مما تأتى به عبارة عن ديون واجبة السداد بالنقد الأجنبى، و الجزء الأقل منح. و كله مرتيط بشروط تمس استقلالية قرارنا، و ليس من أجل سواد عيوننا. و يبدو أن الوزيرة لم تقرأ شيئا عن تاريخ مصر الاقتصادى و السياسى. لأنها لو قرأت، لعرفت كيف كان إغراق القوى الأجنبية لمصر فى الديون فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر مقدمة لإنشاء صندوق الدين لإدارة اقتصاد مصر لخدمة مصالحهم. و إنتهى الأمر بالاحتلال البريطانى عام 1882. هذا هو درس التارخ. كما أن الوزيرة لم تسمع عن كتاب “اعترافات قاتل اقتصادى”، و كيف يَدُسُّ “شركاء التنمية” السُّمَّ الزعاف فى عسل التمويلات.
حكمة اليوم: (أبو الطيب المتنبى)
عِيـدٌ بأَيَّةِ حالٍ عُـدْتَ يا عيـدُ.. بـما مضى أم بأمر فيك تـجديدُ
يا ساقِيـَيَّ أَخًـمْرٌ فى كؤوسكمـا.. أم فى كؤوسكمـا هـَمٌّ و تَسْهِيـدُ
نامت نواطيـرُ مصـرٍ عن ثعالبهـا.. فقد بَشِمْـنَ وما تَفْنَـى العَنَاقيـدُ

التعليقات متوقفه