مــن تــراث صــلاح عيســى الخالــد

188

فوجئت أثناء اجتماع أمانة حزب التجمع بكفر الشيخ- لنتدارس ما حدث من مظاهرات 18 و19 يناير 1977 التي اشعلها الشعب ضد قرارات السادات بزيادة الاسعار- واتهامه لأعضاء التجمع بالتحريض عليها- وقيامه باعتقال البعض منا بعد أن رفضنا بيانه- باصدار اوامره لقوات الامن باطلاق النيران على المتظاهرين كان الجو مشحونا بالتوتر.. والخوف مسيطرا على الناس.
فوجئت قبل بدء الاجتماع – بالدكتور جلال رجب يدخل علينا وفى يده نسخة من مجلة “آفاق عربية العراقية” والقاها امامنا- وقال افتحوا صفحة 28 فاسرعت بفتحها فوجدت مقالا تحت عنوان كبير.. كتب هكذا..
“هوامش سياسية فى مسألة ليست كذلك..
عروبة مصر.. على شفا حفرة من نار”
وفى الصفحة المواجهة – بقلم صلاح عيسي باريس بالعدد الصادر فى اكتوبر1977.
وعقب الدكتور جلال قائلا لنا: اتركوا مؤقتا ما جئتم تتحدثون فيه- هناك ما هو أهم- اقرأوا ما كتبه صلاح عيسي فى هذا المقال- وهو يعبر عن حالة الشعب العربي فى مصر.. وما آل اليه من ترد.. ولو كان صلاح فى مصرلاعتقله السادات من أجل هذا المقال.
وطلب مني أن اقرأ المقال حرفيا على اعضاء الامانة- احسست بغرابة طلبه- فالمقال طويل ويقع فى اربع صفحات من الحجم الكبير- فماذا فيه من جديد- غير الذي نقرأه من مقالات اعضاء الحزب وغيرهم من نخب اليسار- عن حالتنا السياسية المتردية- ومن هو كاتبه؟ وعرفنا انه كاتب يساري من ابرز كتاب الحزب وهو الآن مطارد ومقيم فى باريس هاربا بعد المظاهرات.
ولم انتظر وقرأت المقال- وانتهيت- ولاكثر من ساعة كان الجميع فى صمت وكأن على رؤسهم الطير- حيث شملهم الذهول مما احتواه المقال فلم يسبق لهم قراءة هذه الجرأة وهذا العمق فى تناول ما آل اليه العرب والمصريون من حالة التردي فلأول مرة يستمعون إلى حديث- كما اطلق عليه كاتبه- لم يقرأوه من قبل- بل – كما يقول صلاح فى بداية المقال- لم يقرأه العرب المصريون ويود لو يقرأونه فينسونه- كما يود أن يقرأه العرب غير المصريين فيذكرونه بل يتذاكرونه، وهو يجب أن يفهمه اولئك وهؤلاء كما يريد لهم أن يفهمونه- ويستطرد الكاتب.. فاذا ما اغضبهم جميعا فلتفرش نيتي الطيبة طريقي إلى جهنم ذاك الغضب- ويقول “وعذري انني تكبدت فى التفكير فى هذا الحديث- وكتابته- ألما يفوق غضب الغاضبين فى حدته، وانني ترددت فى اذاعته عشرات المرات، وحين لجت بي الحيرة، آثرت ان اسعي به الي رحمي وذوي قرباي، لعلي اجد عندهم ما ينزع اشواكا مرت عليها اذا اناقش موضوعه مع بعضهم، وما يداوي آلام البحث عن كلمات تحمل اليهم معانيه دون ان تفقدني مودات احرص على الا احرم منها، فأن اخطأت القصد، فلست بالبائع نفسه على هذا الحديث – ولا المطالب باحد امرين يستحقه المجتهد وان اخطأ- وليكن عزاء العناء ان الحق لم يبق للخليفة عمر صديقا فكيف اتطاول الي ما عز على الخليفة الزاهد المتجرد ويستطرد الكاتب قائلا: وحين يتعلق الامر بقضايا الشعوب ومصائرها- تلك التي ينبغي أن تصان فوق كل شيء وبالرغم من اي اعتبار، فليس يجوز أن تصدنا عن اذاعة الحقيقة اشواك من حرج، او يحول دون تقبلها نزوع للدفاع عن الذات وتبرير الخطأ، فلئن تتكلم فتخطئ خير من أن تنغلق على جراح فتندمل على عفونه.
ويدخل الكاتب مباشرة إلى عش الدبابير ويتحدث عن أن عروبة مصر على شفا جرف من نار، وهو لا يذيع سرا حين يقول : إن بعضا من ذوي رحمانا العرب يذكون تلك النار ويؤججون اوارها، وأن اولئك جميعا يدفعوننا نحن العرب المصريين من شفا الجرف إلى عمقه، حيث تكتوي جلودنا بالقطرية وتشتعل نفوسنا بالانعزالية، فنعود من جهنم الي فردوس الفرعونية الجهنمي.
ويقول الكاتب عن الذي جري فى امتنا العربية: منذ نجحت الجبهة الامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة فى الزام حركة التحرر الوطني العربية موقف الدفاع، ثم التراجع، فالانكماش، فنتبادل القبلات وقصائد الغزل على القمة- وتأكد ما قاله القائلون من أن العدوان الصهيوني من ينجح فى الحاق الهزيمة بثلاثة اقطار من امتنا، كان قد نجح فحسب فى توقيع شهادة وفاة الشرائح الاجتماعية الكادحة التي قامت حركة التحرر الوطني العربية منذ الحرب العالمية الثانية عليها وهكذا- ماتت برجوازيتنا العربية- لا بالهزيمة العسكرية فقط، ولكن بطريقتها فى استيعاب تلك الهزيمة، ويستطرد الكاتب: ذلك خطؤنا نحن البروليتاريين العرب، سلمناهم مقودنا، فتاجروا بلحومنا، وحين فشلوا فى تحقيق ما حققته كل برجوازيات الدنيا- الوحدة القومية، والتحرر الوطني والديمقراطية والليبرالية- والعدالة الاجتماعية – ارادوا بهذا الصياح المحمل بالفجر، أن يشرذومونا وأن يفتتوا وحدتنا القطرية التي اصبحت طبقية بالضرورة فنتحمل نحن مسئولية عجزهم، ونشتبك معا حيث يفضون هم الاشتباك مع اعدائنا، ونعمي فى حمي اشتباكنا فى المن والاذي وتبادل فجر افكارهم.
ثم يقول الكاتب: ان بعضا مما ساقه الايدلوجيون والسياسيون، يرتبط تمام الارتباط بما طالنا نحن الكادحين العرب المصريين، فعلي مشارف حرب اكتوبر كان الاقتصاد المصري قد وصل إلى درجة الصفر وعلي حد اعتراف المقامات العليا المصرية – وفى اعقاب الانجاز الباهر لجيوش من الكادحين العرب- فى مصر وسوريا والعراق والجزائر- ابان حرب
اكتوبر،اختار المسئولون المصريون (الباب المفتوح) شعارا للعلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية، وبتطبيقه وفد إلى مصر مئات الالوف من ذوي رحمانا العرب: سائحون وعابرون ومستثمرون ومقيمون… قضوا على كل ما تبقي من عروبة الكادحين المصريين التي اصبحت فى ادني حالات الجزر. وينتهي الكاتب متسائلا: اذا كان له أن يضيء شمعة بعد هذا الظلام الذي لعنه، ويلف العرب المصريين- فهو يأمل من ذوي رحمانا العرب أن يحرصوا على عروبة مصر أن يعيدوا بها الي ما كانت عليه العروبة مزدهرة وبالغة.
ونظرا لأن هذا المقال كتب باسلوب لم نعهده من قبل- فالتعمق والفلسفة اللذين يشملانه- يجعلنا نعيد قراءته تلو القراءة لأنه يؤكد ما حدث للعرب والمصريين العرب حين انتهي بهم الامر الي ما نحن فيه الآن، من حالة اللاوعي حين تركوا خيرنا نهبا لترامب ذلك الافاق الامريكي يعيث بالعروبة وبالاسلام فسادا الي هذا الحد الذي نراه بأعينا- كأن الامة العربية مصريين وعرب لم تسمع ولم تقرأ، هل لو كان هؤلاء قرأوا مقال صلاح عيسي الذي كتبه من اربعين عاما- كان قد تغيرالحال؟!!
ولو كان اعضاء امانة الحزب بمحافظة كفرالشيخ على قيد الحياة حتي الآن والذين استمعوا إلى هذا المقال منذ عام 1977 لطالبوا معي الاستاذة امينة النقاش باعادة نشر هذا المقال فى “الأهالي” ليتحقق ما كان يريده صلاح عيسي من مقاله من ناحية وتخليدا لذكراه وتراثه العظيم من ناحية أخري.

محمد الشامى

التعليقات متوقفه