قضية للمناقشة: اليهودية والصهيونية

123

أثار كتاب الدكتورة « عواطف عبد الرحمن» « اليهود المصريون والحركة الصهيونية» نقاشا يتجدد بين الحين والآخر عن موقف « طه حسين» من الحركة الصهيونية، وقالت الباحثة إنه عندما أصبح تحقيق الوطن القومي لليهود فى فلسطين قاب قوسين أو أدنى فى أربعينيات القرن الماضي، وانكشف تماما الخطر الصهيوني أمام أعين الرأي العام العربي والمصري من خلال الصدامات الدامية التي وقعت بين الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة والحركة الصهيونية المدعومة بالمساندة البريطانية آنذاك، أصبح لزاما على الحركة الصهيونية أن تعيد النظر فى أساليبها الدعائية، وأصدرت الحركة فى هذا السياق مجلة « الكاتب المصري « فى أكتوبر 1945 برئاسة تحرير « طه حسين « ورأت أن الهدف الخفى لإصدار المجلة هو تحييد المثقفين المصريين إزاء القضية الفلسطينية، واستدلت على ذلك بنشر الكاتب المصري لخبر قرار التقسيم عام 1947، وبردود الفعل فى الأوساط العربية والبريطانية فحسب، بينما كانت المجلة قد اهتمت بإبراز انجازات اليهود واسهاماتهم فى الثقافة والأدب العربي.
ويتضمن الكتاب فى أكثر من فصل إشارات توحي بأن « طه حسين « كان متعاطفاً مع المشروع الصهيوني، أو على الأقل ، لم يكن مدركا لخطورته، رغم أن « طه حسين» كان فى سياق آخر قد حذر من ضياع فلسطين.
وبادر كتاب ومثقفون للرد على الدكتورة « عواطف وأبرزوا كيف أنه لم يحصل على جائزة نوبل للآداب رغم أنه رشح لها أكثر من مرة غالبا بسبب موقفه من قضية فلسطين.
وبعيدا عن « طه حسين « يقف الكتاب على تخوم المطابقة بين اليهودية والصهيونية، وهو خطأ شائع نظر له اليمين الديني الذي طالما رأى أن الصراع ضد الصهيونية كأيديولوجية استعمارية تجسدت فى اغتصاب فلسطين وإنشاء إسرائيل على أرضها باعتباره صراعا ضد اليهود واليهودية كدين، ويعد هذا التوجه فى السياسة والثقافة العربية والدوائر الاستعمارية وعلى رأسها الصهاينة لأن إسرائيل تسعى الآن لكسب اعتراف العالم بها، وبخاصة العالم العربي كدولة يهودية، واختزال الصراع ضد المشروع الاستيطاني الصهيوني المدعوم لآخر مدى من الامبريالية الأمريكية فى الصراع الديني بين اليهودية والإسلام هو منتهى أمل الحركة الصهيونية وحلفائها، وضمن التوجهات الجديدة للرأسمالية العالمية المأزومة.
ويتسبب هذا الاختزال فى مخاطر كارثية على النضال التحرري العربي، لأنه يصب المياه فى طاحونة الجماعات الدينية والمتطرفة من كل صنف، وهو يشوه الصراع بين قوى التحرر والعدالة والكرامة من جهة، وقوى الامبريالية والاستغلال والاستيطان من الجهة الأخرى، ويدعم من حيث يدرى أو لا يدري المشروع الامبريالي الجديد وعنوانه صراع الحضارات على أساس ديني، وهو الصراع الذي تتجلى تطبيقاته الآن فى كل من العراق وسوريا واليمن، وينشط رعاته لتحويل مصر إلى ساحة صراع ديني بعد أن أفلتت عبر موجات ثورتها، وانحياز جيشها لتطلعات الشعب افلتت من حكم الإخوان المسلمين وحررت نفسها من مشروع حرب أهلية.
وكان باحثون فى التاريخ قد قدموا لنا وجود اليهود فى مصر، قبل جريمة إنشاء إسرائيل، باعتبارهم جزءا فى نسيج وطني جامع فى بلد كان تاريخيا معبرا للديانات والثقافات، ونشأت فيه على مر السنين ثقافة التعدد التي أسهم فى صنعها المصريون فى كل المنابع الدينية والعرقية واللغوية، واكتسب شعبها فى هذا السياق قدرة وذكاء مكناه من معرفة الأعداء من الأصدقاء، فحارب الدخلاء والطامعين دون هوادة، واستوعب وأدمج الأصدقاء فى نسيجه الواسع، ومن بين هؤلاء كان يهود عاشوا فى مصر واحبوها، وشكلوا جزءا من ثقافتها، والأهم من ذلك كله أنهم رفضوا المشروع الصهيوني، واعتبروه جريمة فى حقهم قبل أن يكون اغتصابا لبلد أخر وتشريد شعبه، وحين اضطروا إلى الخروج من مصر بعد أن تعقدت الظروف لم يذهب أغلبهم إلى إسرائيل بل ذهبوا إلى أوروبا وأمريكا.
ولا يعني هذا كله نفى أن بعض هؤلاء اليهود إنحازوا للمشروع الصهيوني إما تحت ضغط مصالح مادية، أو انسحاقا أمام الإيديولوجيا العنصرية التي صدرت لهم وهم تحويل الدين إلى قومية، واختلاق دولة إسرائيل تجسيدا لهذا الوهم، وقد أخذ الوهم يتكشف للكثيرين ممن هاجروا إلى إسرائيل جريا وراء اليوتوبيا الرجعية، ومبكرا جدا فى القرن التاسع عشر حين لاحت بوادر صعود الحركة الصهيونية متشدقة بفكرة القومية اليهودية قال « فريدريك إنجلز» إن اليهود لا يشكلون أمة، ولا يمكن للصهيونية أن تكون حركة تحرر قومي أصيلة.. ثم يضيف « أن مصير اليهود مرتبط بمصير الثورة فى البلدان التي يعيشون فيها «.
ويجب أن ينهار الاستيطان اليهودي فى فلسطين ما أن تسقط الهيمنة الفرنسية البريطانية فى الشرق الأوسط.
اليهودية ديانة بها تناقضاتها شأن كل الديانات لكن « الصهيونية مرض « وهو ما قاله لي حرفيا « ليوبولد سيدار سنجور» فى « أصيلة» قبل سنوات قليلة من وفاته وعلينا نحن كمثقفين أن نتعاون فيما بيننا لشرح هذه الحقيقة للجمهور الواسع الذي يشوه المتاجرون بالدين وعيه وهم يروجون لمشروع الصراع الديني بديلا للصراع ضد الامبريالية والصهيونية.

التعليقات متوقفه