قضية للمناقشة: الدولة والسلفيون

129

تبحث دوائر السلطة فى مصر بعد الإنجاز الكبير للموجة الثانية للثورة عام 2013، وإزاحة الإخوان عن الحكم بعد أن اكتشف المصريون حقيقتهم.. تبحث عن حليف قوي فى الساحتين الاجتماعية والسياسية، حليف يكون عونا لها فى مواجهة النفوذ الإخواني، ولأسباب كثيرة يطول شرحها لم تلجأ الدولة للقوى السياسية واليسارية الديموقراطية، بدعوى أن هذه الأخيرة هي ضعيفة وتفتقر إلى الروابط المتينة مع الجماهير، تلك الروابط التي نسجها تنظيم الإخوان على مدى عقود، لكن الحفر الدءوب عن الأهداف والمرامي الحقيقية لهذا الاختيار يشير بقوة إلى المصالح الطبقية المتوافقة.
ولجأت الدولة مبكرا جدا إلى السلفيين لا فحسب فى مواجهة فلول الإخوان المسلحين ونفوذهم الممتد بطول البلاد وعرضها، وإنما أيضا فى مواجهة كل من الجماهير الغاضبة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وقوى اليسار وشباب الثورة الذين يطرحون سياسات بديلة تتوافق مع أهداف الموجات الثورية وشعاراتها : عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية دولة مدنية.
وتجلى إنحياز دوائر السلطة ممثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلفيين وممثلهم حزب « النور « أثناء كتابة الدستور حين وقف ممثلوها متضامنين مع كل من « الأزهر « وحزب النور ضد النص على مدنية الدولة سواء فى مقدمة الدستور أو ضمن مواده، ليطرحوا فى النهاية صياغة لا علاقة لها بالشعار الذي رفعته الموجات الثورية ولا بتطلعات المصريين لإرساء مبادئ المواطنة والحداثة فى ظل دولة مدنية ديموقراطية حديثة، وخرج لنا الدستور بتعبير مائع لامصداقية له حين كتب المهيمنون أو الذين يملكون حق النقض رغم أنهم أقلية فى لجنة الدستور كما قال أحد أعضاء اللجنة أي كل من الأزهر وحزب النور والمجلس الأعلى للقوات المسلحة : حكومتها مدنية (!).
وأصبح طرح شعارات ومطالبات تجديد الفقه والخطاب الديني وصولا لمطالبة الرئيس « السيسي « بما سماه ثورة دينية أمراً مثيرا لشكوك جدية، لأن رعاية الدولة للسلفيين متواصلة، ومنابرهم تحظى بالحماية، بل وأدبياتهم ومصطلحاتهم شائعة ومتداولة، والأهم من ذلك كله أن ممارساتهم ضد النساء وضد المسيحيين متواصلة دون رادع، أو عقاب، بل إن بعض رموزهم تمارس فى الحياة العامة نفوذاً كبيراً على مشاعر الجماهير الغاضبة وسلوكها، بينما يجري التضييق على القوى المدنية واليسارية على نحو خاص.
ولم تتعلم السلطات القائمة درس تجربة « السادات « الذي سبق أن إستخدم نفس المنطق حيث لم يكتف فى بداية حكمه بالإفراج عن الإخوان وحتى الجماعات الجهادية ليستعين بها على نفوذ اليسار فى الجامعات والمناطق العمالية، بل إنه تحالف فعليا معهم وصولا إلى قيام رجاله بتمويل تسليحهم ليقوموا بمهمة تصفية اليسار ولكنهم انقلبوا عليه بعد ذلك وقتلوه.
يندرج تحالف الدولة مع السلفيين فى سياق مركب ومعقد يرعاه العقل البراجماتي النفعي، وضيق الأفق السياسي الذي يغذي مصالح لا حصانة لها فى أوساط الجماهير التي أشعلت موجات الثورة، ويمثل الفساد السياسي والاقتصادي عصب الأسباب التي أدت إلى الانفجار، وهنا يكون الغطاء الديني ملاذا وحصانة وتبريرا للثروات التي تراكمت فى ظل الفساد، فضلا عن تهدئة المشاعر الغاضبة لجماهير أنجزت موجات الثورة، ولم يتغير شئ سوى أشخاص وأصبح حالها أسوأ مما كان، لكنها هي نفسها تغيرت بعمق.
وللتشهير بالاشتراكية والاشتراكيين يتشدق المعادون لها بقول ماركس إن الدين « أفيون الشعوب «، وكالعادة ينتزعون هذه الجملة من السياق العام الذي جاءت فيه حين تحدث « ماركس « عن كون الدين هو روح عالم بلا روح، وعزاء من لا عزاء لهم منتقدا ما يلحقه الاستغلال من أذى بإنسانية الإنسان مما يؤدي لاغترابه، ويلجأ المستغلون لاستخدام الدين لتغييب وعي الجماهير وتبرير استنزافها.
نستطيع أيضا أن نستنتج من حماية الدولة للسلفيين وهم المعادون لكل ما تطرحه من شعارات، كيف أن منطق الألاعيب السياسية البهلوانية يقف خلف هذه الممارسات وهو منطق يرى أن السياسة هي لعبة شطارة، و» ما تكسب به العب به « أياما كانت نتائج مثل هذه الألاعيب، وللأسف أنها كانت غالباً نتائج كارثية.
وتتعدد أشكال تقصير المثقفين التنويريين والنقديين، ومن ضمنها تقاعسهم عن تقديم صيغة أخرى ومنهج آخر للسياسة، لا باعتبارها لعبة الشاطر يكسبها وإنما باعتبارها أداة جبارة لتغيير حياة الناس إلى الأفضل، وإرساء القيم العليا المبنية على تضامن الجماهير العريضة، صاحبة المصلحة فى التغيير، ومنجزة الثورات، وصانعة التاريخ الحقيقية.

التعليقات متوقفه