قضية للمناقشة: بين المصنع و«الكومباوند»

154

يشعر المرء بسعادة غامرة حين تقول الإحصائيات إن البطالة قد تراجعت فى مصر، ولكن الرؤية الأشمل والأعمق للوضع الاقتصادي فى البلاد تقول لنا إن هذا التراجع ليس دليلا على زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي الذي طالما أكدت خبرة تقدم الشعوب والبلدان أنهما أي الصناعة والزراعة ليسا مجرد مجالين من مجالات النشاط الاقتصادي ولكنهما أساس إستقلال القرار السياسي وعنوان سيادة الدول وقدرتها على الإفلات من شبكة التبعية التي تنسجها الاحتكارات الكبرى حول رقاب الشعوب والبلدان، لنهب ثرواتها، وتربطها بعجلة الرأسمالية العالمية وهي تغلق أمامها بالضبة والمفتاح كل طرق الإفلات من هذا المصير.
ويزداد الأمر تعقيدا حين يتبنى الحكام وأجهزة الإعلام عن إقتناع بل وعقيدة نظرية أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ كما قال المفكر الأمريكي « فوكوياما « بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وتفكك الإتحاد السوفيتي، وإن كان فوكوياما قد راجع نظريته بعد إنفجار الأزمات الكبرى فى النظام الرأسمالي، وهي الأزمات التي كادت تطيح بالإدارة الأمريكية عام 2008 كما أنها انعكست على الإقتصاد العالمي كله.
ولكن الموقف الجديد « لفوكوياما « جاء متأخراً وبعد فوات الاوان، بعد أن كانت البلدان الصغيرة التي سقطت فى قبضة الاستعمار الجديد وطابعه الإقتصادي الأساسي قد تورطت فى شباك التبعية التي إزدادت إحكاماً بعد سقوط الإتحاد السوفيتي الذي طالما كان عونا لهذه البلدان وهي تكافح من أجل استقلالها وتتطلع إلى التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.
ويؤدي الاقتناع الشائع بين غالبية حكام ما يسمى بالعالم الثالث بأن نمط التنمية الذي إختارته ليس ضروريا فقط، بل حتمي أيضا وواقع الأمر أن هذا النمط هو « الروشته» التي أصدرتها وعممتها الاحتكارات الكبرى المهيمنة على الاقتصاد العالمي، وفرضتها عبر الأذرع الطويلة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وهيئة المعونة الأمريكية، مقابل قروض تراكم الديون على هذه البلدان.
ويتبنى الحكام هذا النمط باعتباره إختياراً وليس إجباراً ويكرسون كل أدواتهم من الإعلام للمؤسسة الدينية للقمع لفرضه على الشعوب، وتهميش وإسكات كل معارضته.
ويقول «راجي أسعد» الخبير الاقتصادي الدولي إن نمط التنمية فى مصر يخلق فرص عمل سيئة وغير منتظمة وذات طابع غير رسمي كقطاع العقارات مثلاً، وتتوجه استثمارات القطاع الخاص إليه على حساب الصناعة.
ويلخص « أسعد « هذا الوضع قائلا « إن هذا النمط من النمو إنحاز إلى « الكومباوند» على حساب المصنع.
ولطالما كانت أولوية الصناعة والزراعة هي الموضوع الرئيسي فى صراع البرامج والأفكار بين الحكومات والإدارات التي تعاقبت على البلاد منذ الموجة الأولى من الثورة فى 25 يناير 2011 من جهة وبين القوى التقدمية والاشتراكية من جهة أخرى، وكانت هذه القوى الأخيرة وماتزال ترى أن زيادة الإنتاج فى الاقتصاد الحقيقي أي الصناعة والزراعة بدءا بتشيغل المؤسسات والمصانع والورش المعطلة، لابد أن توضع على رأس أولويات الحكومات المتعاقبة ضمن خطة شاملة للنهوض بالصناعة والزراعة، ولكن أحداً لم يسمع، ورتبت الحكومات أولوياتها فى إتجاه تنشيط العقارات أي طبقا لعقلية « الكومباوند» كما وصفها الخبير الاقتصادي.
وأخذت هذه الحكومات تتفاخر « بالإنجازات» التي أدت لتراجع البطالة وهي تتجنب فى الوقت ذاته أي حوار جدى مع القوى السياسية والاجتماعية التي تدعو إلى نموذج آخر للتنمية بعد أن درست تجارب البلدان القليلة التي تجنبت « روشتة» البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ورفضت الانصياع للإملاءات حتى لا تسقط فى شباك « الديون» التي هي الطريق السريع للتبعية، وإفقار الشعوب، ونهب ثرواتها، وربطها السريع لآماد طويلة بسياسات ترفضها الشعوب التي تتطلع للعدالة والكرامة الإنسانية وعلاقات دولية قائمة على الندية والتكامل، وتناضل بإصرار من أجل تحقيق أهدافها، وينفجر الغضب فى موجات متلاحقة كما حدث فى بلادنا.
ومن علامات الحماقة أن يشهد حكام مباشرة حالة السقوط المروع التي تسببها الأزمات الكبرى الناتجة عن مثل هذه الاختيارات السياسية والاقتصادية دون أن يتعلموا منها، وهم يجدون أنفسهم فجأة أمام الغضب « الساطع» لشعوبهم جراء اختياراتهم لنمط تنمية معاد فى جوهرة لمصالح هذه الشعوب.
وليس تجنب الحوار المجتمعي حول السياسات رغم التشدق به كلا من قبل الحكام، لكنه بدوره إختيار، فهم يعرفون جيدا الطبقة والفئات الاجتماعية التي تتبنى هذه السياسات مصالحها، ويعرفون تناقض هذه المصالح جذريا مع مصالح الغالبية الساحقة التي هي ملح الأرض ومنتجو ثروات البلاد، ووقود الإنتفاضات والثورات وصانعة التاريخ.
وهم يعرفون أيضا أن وجود الطبقات الشعبية عبر منظماتها وممثليها الحقيقيين طرفا فى أي حوار مجتمعي سوف يتوصل هذا الحوار بالقطع إلى نتائج أخرى عبر فعالية جماهيرية ديناميكية هي جوهر الديموقراطية.
وفى هذا السياق تتجلى بصورة لا لبس فيها قضية الدفاع عن الحريات العامة كأداة جماهيرية فعالة وليست ديكورا كما هي الآن، وتلك مهمة لابد أن نعترف أن القوى التقدمية والاشتراكية والديوقراطية عامة لم تنجزها بعد، وعلى طريق هذا الإنجاز الذي لا مفر منه سوف تتحقق بعض الأمنيات الشعبية وربما يكون أهمها هو استرداد المصريين للثقة فى قدرتهم على التغيير إلى الأفضل، أليس هذا هو مضمون تاريخهم الحديث كله.

التعليقات متوقفه