بمناسبة مرور 60 سنة على قيام الجمهورية العربية المتحدة.. دروس الوحدة.. والانفصال

181

منذ عام 1949 كانت دمشق تتعرض لتقلبات سياسية متعاقبة.
فقد توالت الانقلابات العسكرية. وفى تلك الأثناء تزايدت قوة الحزب الشيوعي السوري بشكل لم يسبق له مثيل عقب الانتخابات البرلمانية عام 1955 وأصبح خالد بكداش نائبًا عن دمشق فى البرلمان وشعرت البورجوازية السورية بالخوف ولم تفلح الأحزاب السياسية فى السيطرة على مجرى الأحداث، كانت الأحزاب السياسية فى سوريا هي:
1. الحزب الوطني، بزعامة صبري العسلي
2. حزب الشعب، بزعامة رشدي الكخيا
3. الحزب الليبرالي، بزعامة منير العجلاني
4. حزب الإخوان المسلمين، بزعامة معروف الدواليبي
5. الكتلة القومية، بزعامة شكري القوتلي
وحتى عندما توحد البعثيون عام 1954 مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني لم يتمكنوا من إقرار سلطتهم.
واعتقد زعماء البعثيين أن شعار الوحدة المصرية السورية يمكن أن يفتح الباب لانتشار تأثيرهم العقائدي فى العالم العربي ككل.
وأخذ الزعيم البعثي صلاح البيطار على عاتقه مهمة إقناع عبدالناصر بالوحدة الشاملة.
وقاوم عبدالناصر، فى بداية الأمر؛ اقتراح البعث السوري، كان عبدالناصر يعتقد أن مصر لم تكن مهيأة للوحدة الشاملة مع سوريا ولكن عبدالناصر عدل عن رأيه بعد مناقشات طويلة.. قدم خلالها السوريون الحجج تلو الأخرى لدعم وجهات نظرهم.
كان النضال المصري ضد الاستعمار، والقضاء على احتكارات الغرب وتنويع مصادر تسليح الجيش المصري بعد مؤتمر باندونج، وتأميم شركة قناة السويس ودحر العدوان الثلاثي.. كلها أرصدة تشكل قاعدة للوحدة المستقبلية للدول العربية وإنشاء أول دولة عربية موحدة فى العصر الحديث مما يؤدي إلى تقوية النضال الوطني التحرري المناهض للإمبريالية فى المنطقة.
كانت وجهة نظر عبدالناصر هي عدم اتخاذ إجراء متسرع، فالوحدة السياسية كما رأى هي أخر مراحل الوحدة والتي يتم إعطاؤها طابعًا رسميًا، والوصول إلى ذلك يقتضي مرحلة تحضير تمتد إلى حوالي خمس سنوات يتم خلالها إقامة وحدة فعلية بين البلدين فى جميع المجالات ولاتحتاج سوى الجانب السياسي لإعلانها رسميًا، لكن الالحاح من جانب سوريا على إتمام الوحدة فى أسرع وقت.. جعل عبدالناصر فى وضع لا يمكنه معه الإصرار على موقفه الداعي للتريث فى إتمام الوحدة.. كان عبدالناصر ينادي بـ «التضامن العربي».
أنبياء وزعماء !
تردد أن شكري القوتلي قال لعبدالناصر بعد التوقيع على اتفاق الوحدة بأنه سلم له 6 ملايين نسمة بينهم 3 ملايين يعتبرون أنفسهم أنبياء و3 آخرين يعتبرون أنفسهم زعماء!.
وحتى شهر ديسمبر 1957، كانت المعركة الرئيسية فى سوريا وفقا لشهادة د. مراد غالب فى كتابه «مع عبد الناصر والسادات « بين البعث والقوميين من جهة والشيوعيين من جهة أخرى.. كانت سوريا بلا حكومة عملياً، وكان رئيس الوزراء خالد العظم يميل للشيوعيين ولا يعترف بهم عملياً البعثيون والقوميون، كذلك كان رئيس الأركان عفيف البزري يميل للشيوعيين. وكان هناك رجال الأعمال والشركة الخماسية وطبقة التجار والمثقفين، ويأتي الحزب الشيوعي السوري بزعامة خالد بكداش كاحدى القوى الرئيسية فى سوريا.
كانت تلك هي الأوضاع فى سوريا كما شاهدها د. مراد غالب فى زيارة لدمشق بناء على طلب الرئيس جمال عبدالناصر، وكان الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي كله قد وطد أقدامه بمؤسسات وخبراء مساندًا القوى الشيوعية التي ينافسها فى القوى حزب البعث العربي الاشتراكي.
نتيجة للصراعات الحادة بين كل هذه الجماعات أصيبت بالشلل التام وأخيرًا طلبوا الوحدة مع مصر.
ورأى جمال عبدالناصر ألا تكون الوحدة فورية واندماجية، ولكنهم ضغطوا عليه حتى قبلها وعلى رأس من مارسوا الضغط شكري القوتلي رئيس الجمهورية.
شرط حل الأحزاب
ويقول د. مراد غالب: اشترط عبدالناصر حل جميع الأحزاب ووافقت الأحزاب ماعدا الحزب الشيوعي الذي ترك زعيمه خالد بكداش.. سوريا ولجأ إلى الاتحاد السوفيتي، وبدأت خلافات حادة بين مصر والاتحاد السوفيتي الذي اتهم هذه الوحدة بأنها أمريكية والهدف منها تصفية الشيوعيين فى سوريا والعراق.
كانت الأحزاب التي وافقت على حل نفسها تطمع فى أن تكون شريكا كاملا فى الوحدة، وخاصة حزب البعث وزعامته الممثلة فى أكرم الحوراني وصلاح البيطار.. وعُين أكرم الحوراني نائبا لرئيس الجمهورية وصلاح البيطار وزيرًا للثقافة.
بدأ السوريون يشتكون من عدم المشاركة فى الحكم فى نظام ليست المشاركة من صفاته الأساسية، واشتكى أكرم الحواراني من أنه طلب مقابلة الرئيس وانتظر ثلاثة أيام حتى يقابله.. وهو نائب رئيس الجمهورية (وهنا يرصد د. مراد غالب عدة وقائع مهمة:
أما المصريون الذين يعملون فى الإقليم الشمالي، فقد مارسوا هوايتهم الفرعونية، واعتبر كل منهم أنه جاء معلماً ورئيساً، وكان يعوزهم بحق « ثقافة الوحدة»، وتراكمت الخلافات والاحباطات واستقال الوزراء البعثيون وعلى رأسهم الحوراني والبيطار وغادروا إلى دمشق.
كان نظام الحكم فى سوريا يمارس سلطاته بديكتاتورية فظة وبالكثير من القهر والإرهاب.
كان للتآمر الخارجي تأثير بالغ على تعظيم الخلافات، صرفت السعودية أيام الملك سعود أموالا طائلة لإفشال هذه الوحدة وتحطيمها.
قنبلة فى طائرة عبدالناصر
أقلق إنشاء الجمهورية العربية المتحدة الأنظمة الرجعية العربية.
رأى الملك سعود أن الوقت قد حان للتخلص من جمال عبدالناصر ونجحت أجهزته فى العثور على شخص من المحيطين بعبدالناصر على استعداد للقيام بعملية اغتيال.. فقاموا بتجنيد رئيس أركان المخابرات الحربية السورية عبدالحميد السراج، وحولوا لحسابه الخاص فى بنك «مندلندسكي» مليون جنيه، ولكن ما لم يعرفه المتآمرون هو أن السراج أبلغ عبدالناصر بتلك المعلومات وأن عبدالناصر طلب منه الاستمرار فى اللعبة، فما كان من السراج إلا أن أخبر أجهزة الملك سعود بأن المبلغ ضئيل جدًا مقابل عملية بهذه الدرجة من الخطورة، هكذا أضيف إلى حساب السراج فى البنك 90 ألف جنيه ووعد السراج بوضع قنبلة فى الطائرة التي تقل عبدالناصر، وفى الموعد المحدد.. انفجرت قنبلة من نوع آخر مختلف تمامًا فقد عقد مؤتمر صحفى عالمي أعلنت فيه وقائع المؤامرة ووثائقها والشيكات المخصصة لتمويلها.
الوحدة، بما طرحته من مفهوم ثوري، كانت تمثل تهديدًا للأنظمة العربية المحافظة، فى الوقت الذي عززت ودعمت فيه مكانة مصر فى العالم العربي وفى المستوى الدولي وظهرت بصورة الدولة العربية الوحيدة المؤهلة للزعامة فى العالم العربي.
أسباب الانفصال
على أثر الانقلاب ضد الوحدة فى سوريا، قال عبد الناصر:
«يوم 15 يناير لسنة 1958 بالذات، قلت لهم إن أحنا يجب أن ننتظر خمس سنوات، ونجري وحدة اقتصادية ووحدة عسكرية، ووحدة ثقافية، ثم نتجه بعد ذلك إلى الوحدة الدستورية «.
قال عبد الناصر إنه نزل عند توسلاتهم «لإنقاذ سوريا».
هنا يجب أن نلاحظ أن مثاليات الفكر القومي تركز دومًا على الثوابت المشتركة فى الشخصية العربية وتهمل تمامًا فروق التمايز فى هذه الشخصية.
* كان مفهوم الوحدة العربية مشحونًا بالعاطفة، ولم تكن هناك نظرية حول كيفية تحقيق الوحدة.
* الموافقة على الانتقال السريع من فكرة الاتحاد الفيدرالي “التي كانت مطروحة” إلى الوحدة الكاملة دون إدراك للنتائج.. كانت خاطئة.
* أسلوب الحكم، ورفض التعددية، وسيطرة الأجهزة الأمنية وتعطيل الحياة السياسية واعتقال أصحاب الرأي مما أدى إلى فتح ثغرات فى الجبهة الداخلية بعد قيام دولة المخابرات بقيادة عبدالحميد السراج، والسلطان عبدالحميد.
* تفاوت الظروف الإقليمية والاقتصادية والاجتماعية وإهمال الخصائص الإقليمية والظروف الاقتصادية والتباين فى التطور الاقتصادي والاجتماعي بين مصر وسوريا والنقص فى نقل المعلومات من دمشق إلى القاهرة / الانقسام الجغرافى إلى منطقتين منفصلتين غير متصلتين إلا عبر البحر.. فى أغسطس 1961 وفى مقابلة مع التليفزيون الألماني الشمالي “هامبورج”، قال عبدالناصر : “إن الوحدة العربية، كما تفهمها الجماهير العربية، تمتد على جبهة طويلة تبدأ من التضامن العربي إلى التحالف إلى الاتحاد إلى الوحدة الدستورية الكاملة”.
بعد عشرة أيام على الانقلاب ضد الوحدة.. كتب محمد حسنين هيكل: “لقد كنت فى كثير من الأحيان أشعر بالخطر الذي لابد أن تواجهه تجربة الوحدة من جراء ارتكازها على شخصية “البطل” ورئيس واحد وعلم واحد ونشيد واحد ولكن فيما عدا ذلك.. كل شيء كان يختلف بين الإقليمين “ واعترف هيكل باستبداد عبدالحميد السراج.
بعد 12 يوماً من الانقلاب العسكري على الوحدة” فى 10 اكتوبر” اعترفت الولايات المتحدة رسميًا بحكومة الانفصال.
الاعتراف بالأخطاء
فى يوليو 1961، وقع عبدالناصر قوانين التأميم، والحد الأقصى للملكية الزراعية، وتوزيع أرباح الشركات والمؤسسات.
ووضع تحت الحراسة 600 من أكبر أغنياء مصر، واعتقل 40 فرداً منهم أطلق سراحهم بعد عدة أشهر، وصدر قرار بمنع كل من فرضت عليهم الحراسة من الاشتراك فى الحياة السياسية.. وكان عبد الناصر قد بدأ الحديث فى عام 1956 عن «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية» مع التأكيد على عدم المساس بالملكية الخاصة لكي ينتقل الخطاب الناصري بعد ذلك إلى الحديث عن الصراع الطبقي وعن الاشتراكية العلمية «التي فسرها بأنها الإشتراكية على أساس علمي وعدالة التوزيع.. كانت تلك هي الفترة التي تعد فيها عناصر سوريا للانقلاب على الوحدة، لم يكن قد ظهر فى سوريا عقب حل الأحزاب السياسية أي تنظيم يستطيع عبدالناصر الاعتماد عليه.. فالبعثيون الذين كانوا يؤيدونه فى الماضي، وقفوا مع الانقلاب.
كذلك كانت التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طبقت فى سوريا « على نفس النموذج المصري « بدون أي دراسة للظروف المحيطة الخاصة بها.
وقع الانقلاب فى سوريا فى 28سبتمبر 1961 وتوقع البعض أن عبدالناصر سيرسل قواته إلى سوريا لإحباط الانقلاب على الوحدة، ولكنه لم يكن على استعداد لمحاربة السوريين، واستطاع الرجل أن يسيطر على مشاعره فى تلك اللحظات الصعبة، وقال عبارته المهمة :
«يجب علينا أن نكون قادرين دائمًا على الاعتراف بأخطائنا».

التعليقات متوقفه