عندما يترجل الفرسان

218

وصلت الى واشنطن مساء 4 يناير 1979 لكى أستلم عملى بالسفارة المصرية بالولايات المتحدة كأحدث درجة دبلوماسية بها. كان السفير المصرى هو الراحل الدكتور أشرف غربال، واسع الصيت وعظيم التأثير فى ادارة ملف العلاقات المصرية -الأمريكية. وكان معروفا عنه الصرامة فى العمل ودقة وكفاءة الأداء.
كان الرجل الثانى بالسفارة هو الدكتور محمد شاكر وكان وزيرا مفوضا. والرجل الثانى فى سفارة كبيرة ومهمة مثل السفارة المصرية فى واشنطن هو المسئول الأول عن العمل اليومى بالسفارة، والتنسيق مع كل المكاتب الفنية الملحقة بها.بالاضافة الى متابعة اداء الدبلوماسيين فى الاضطلاع بمسئولياتهم، علاوة على الاشراف المباشر على كل الشئون المالية والادارية الخاصة بالسفارة.
لم أكن قد تشرفت بمعرفة الدكتور شاكر قبل التحاقى بالعمل بالبعثة الدبلوماسية المصرية بالولايات المتحدة، وبالرغم من الرهبة التى انتباتنى فى البداية، الا ان الدكتور شاكر خفف منها بأدبه ودماثة خلقه وخبرته الدبلوماسية العالية والمتنوعة.
كان الكتور شاكر قد حصل على شهادة الدكتوراة فى موضوع معاهدة عدم الانتشار النووى، من كلية الدراسات العليا فى العلاقات الدولية بجنيف. وموضوع الدراسة كان يمثل اهمية خاصة للسياسة الخارجية وللدبلوماسية المصرية، فقد كانت مصر، ولازالت، الترسانة النووية الاسرائيلية، وتأثيراته السلبية على موازين القوى بالشرق الأوسط.
ولمست عن قرب السمعة الدولية المتميزة التى تمتع بها الدكتور شاكر فى كل المجالات المتعلقة بمنع الانتشار النووى ليس فقط فى الشرق الاوسط وانما فى كل ارجاء العالم.وكان يدعى فى مناسبات عدة لالقاء محاضرات، داخل وخارج الولايات المتحدة، عن معاهدة عدم الانتشار النووى وضرورة اخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووى.
ولقد تبين لناعمليا الخبرة العلمية الواسعة للدكتور شاكر بالنسبة لقضية الانتشار النووى فى النصف الثانى من عام 1979.
فقد فوجئنا بخبر فى الصحافة الأمريكية عن هزة أرضية شديدة فى المحيط الهندى داخل حدود المياه الاقليمية لجنوب افريقيا، وكان هناك تلميح ان الهزة ربما تكون ناجمة عن اختبار سلاح نووى.لم تكن هناك معلومات من قبل عن انشطة نووية لجنوب أغريقيا، أو انها تنوى امتلاك أسلحة نووية. ولاحظنا من خلال اتصالات السفارة بوزارة الخارجية الأمريكية ان الجانب الأمريكى يرواغ فى الرد، والأمر الذى أثار انتباهنا هو محاولة الجانب الأمريكى من التقليل من خطورة الحدث.
وكان موقف الولايات المتحدة مثار مناقشات ممتدة داخل السفارة، فى محاولة لفهم غموضه ومرواغته.
كان تقدير الدكتور شاكر ان الهزة هى تفجير نووى تم بالتعاون بين اسرائيل وجنوب أفريقيا، وان الولايات المتحدة على علم بالموضوع لكنها لا تريد وان تظهر وكأنها تشجع التعاون بين اسرائيل وجنوب أفريقيا فى مجال الأسلحة النووية.
وخلال الفترة المشار اليها قامت دار نشر عالمية بطبع رسالة الدكتوراة التى أعدها الدكتور شاكر عن معاهدة عدم الانتشار النووى، وأصبحت مرجعا علميا عالميا.
رشحت مصر رسميا الدكتور شاكر لشغل منصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة النووية فى فينا، وسعت للحصول على التأييد الأمريكى، لكن لسبب أو لآخر كان للولايات المتحدة مرشح آخر، لا وجه للمقارنة بينه وبين الدكتور شاكر فى مجال عمل الوكالة وكل المسائل المتعلقة بعدم الانتشار النووى. المفاجأة المدوية كانت تتمثل فى ان مرشح واشنطن لشغل المنصب الدولى المهم هو مصرى الجنسية وعمل فى السابق بوزارة الخارجية المصرية.وهو الدكتور محمد البرادعى. وبالرغم من المحاولات المضنية للدبلوماسية المصرية للحصول على التأييد الأمريكى لترشيح الدكتور شاكر، الا ان واشنطن عارضت بشدة المرشح الرسمى لمصر، ودفعت بمصرى آخر لا يمثل مصر لشغل المنصب، وهو موقف لم يكن منسجما مع العلاقات الوطيدة التى تربط كل من القاهرة وواشنطن، لكن أحداث لاحقة فى مصر عقب يناير 2011 ربما جاءت لتلقى الضوء على الانحياز الأمريكى التام للدكتور محمد البرادعى.
برحيل الدكتور محمد شاكر فى الأسبوع الماضى تكون الدبلوماسية المصرية قد فقدت فارسا من فرسانها المتميزين بالحس الوطنى العالى، وعلى أرضية أنتماء قومى لا شك فيه، دافعوا بكل اخلاص وتفان عن حقوق ومصالح وقضايا الوطن فى كل المحافل الدولية، وفى شتى عواصم العالم.

التعليقات متوقفه