العرب وغياب التوجه المستقبلى

272

علي الرغم من ان العقد الاخير شهد قفزة عالمية باتجاه تنظيم الدراسات المستقبلية فى كل المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية، وتزايد اعتماد حكومات عديدة على ما تنتجه عشرات المراكز المتخصصة فى الدراسات المستقبلية والاستشرافية فى رسم سياساتها المحلية والدولية فقد غاب العرب والمسلمون عن هذا المجال لأسباب سياسية بالاساس تتعلق بغياب الحريات والديمقراطية والشفافية والمؤسسية والاستناد على رؤية (الزعيم الاوحد). وحتي المراكز العربية التي عنيت بعلوم المستقبل اهتمت اكثر بترجمة ما تنتجه المؤسسات الغربية والاوربية والامريكية، عن المستقبليات برغم اختلاف الاقترابات التي اعتمدت عليها تجاه القضايا العربية بل و حينما كشفت هذه الترجمات عن حقيقة أهداف الغرب فى كيفية إحكام السيطرة على الموارد العربية او السعي لتغيير منظومة القيم العربية الاسلامية وقد لوحظ ان الدراسات المستقبلية القليلة التي اجريت فى العالم العربي لم تحاول تغيير التراث الغربي فى المستقبليات واجراء دراسات مستقبلية بديلة عن العالم العربي. والواقع ان التفكير المستقبلي فى المجتمعات العربية يواجه معضلة ثقافية كبرى تعرقل استمراره وتطوره. اذ يعتبره البعض تهديدا للتابوهات الفكرية والثقافية الموروثة منذ مئات السنين، كما يري البعض الاخر ان الدراسات المستقبلية صورة جديدة من صور الغزو الفكري التي تستهدف القضاء على الثقافات التقليدية ذات الجذور الراسخة وانها تعكس ثقافة غربية علمانية معادية للدين. ويرصد الباحثون المستقبليون ندرة اجراء هذه الدراسات المستقبلية فى العالم العربي، وانها مقصورة على النطاق الاكاديمي ولا تشكل جزءا من نسيج التفكير الاجتماعي او من الممارسات العملية سواء من جانب الحكومات او الجماهير العربية.. واول ما يصطدم فى جهود المستقبلين العرب هو ثقافة الماضي تلك الثقافة التي تنتشر على نطاق واسع وتضم معظم الفئات الاجتماعية فى الحضر والريف العربي وهؤلاء الذين ينتمون لمختلف التيارات السياسية والثقافية. وتكتفى ثقافة الحاضر باستدعاء بطولات ونماذج من التاريخ بدلا من السعي لصياغة المجتمعات العربية من خلال سيناريوهات مستقبلية واقعية وممكنة ومرغوبة اجتماعيا نحن اذن امام مشكلة جوهرية تتمثل فى غياب ثقافة ادارة الحياة العربية وفق مخططات مدروسة بعيدة المدي تستهدف تغيير الواقع الراهن المكبل بالافكار الغيبية والماضوية والقيود البيروقراطية سعيا لخلق واقع عربي مستقبلي يليق بالتراث المضئ الذي ارساه رواد التفكير المستقبلي من العلماء العرب والمسلمين. مثل الكندي وابن رشد وابن خلدون الذي يعد بجدارة رائد علم الاجتماع التاريخي ولا يمكن اغفال مدينة الفارابي الفاضلة التي الهمت كل اصحاب اليوتوبيات فى التاريخ الوسيط من القديس اوغسطين وتوماس مور وفرانسيس يكون ودانتي للبحيري.
ولا شك ان التفكير المستقبلي بمنهجه النقدي والعقلاني يواجه الباقي العالم العربي ببيئة ثقافية معادية، وهو نقيض التفكير السلفى الذي يحاول بناء المستقبل على شاكلة الماضي حتي شاعت الفكرة الساخرة عن ان العرب يتنبأون بالماضي ويتذكرون المستقبل، واذا كانت الحالة الراهنة للمعرفة الانسانية والعلمية والتكنولوجية قد اتاحت للانسان قدرات هائلة لاختيار مستقبله الجماعي والفردي الامر الذي ادي الي حدوث تطور ملحوظ فى مفهوم المستقبل كما تطورت النظرة اليه مع تطور الفكر البشري فلم تعد تراه كما كانت فى السابق كقدر محتوم خططت له قوي خارقة لا يملك الانسان حيالها تذكر بل اصبحت نظرة تنطلق من قوانين الصيرورة والتفاعل الجدلي وقدرة الحياة على التجدد اذ تعتبر المستقبل مرحلة زمنية يمكن التحكم فى مساراتها وابعادها وليس شيئا معد سلفا وان البشر شركاء فاعلون فى تشكيل عالم المستقبل. وإذا كان للعالم العربي اهتمام اساسي بقضية التنمية فإن معظم التحديات التي تواجه التنمية العربية لا يمكن دراستها اصلا الا فى الاجل الطويل. مثل قضية التكامل العربي ودوره المحوري فى انجاز التنمية العربية علاوة على قضايا الصراع العربي الاسرآئيلي والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط والتغيرات المناخية وازمات المياه ويضاف الي ما سبق المشاريع المستقبلية مثل مشروع القرن الامريكي الجديد 2002 الذي يدعو الي اعادة رسم الخريطة الاقليمية وتغيير هويتها وقيام نظام اقليم بديل للنظام العربي وتقارير مؤسسة وقيام نظام اقليمي بديل تستهدف اعادة هيكلة الشرق الاوسط فضلا عن المشاريع المستقبلية الاسرائيلية اسرائيل 2020، اسرائيل 2025 وغيرها.
لاشك ان كل هذه التحديات التي تهدد الوجود العربي بمعطياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تؤكد مدي احتياج العرب لدراسة المستقبل واستشراف اقامة وتحديد المنطلقات الفكرية التي يجب ان ينفتحوا عليها فى سياق عملية التأسيس الفكري والعملي للمستقبل العربي. ومن دون الاستشراف العلمي للمستقبل العربي. ومن دون الاستشراف العلمي للمستقبل العربي سيظل صناع القرار عاجزون عن مواجهة التحديات الراهنة خصوصا التي فرضتها تداعيات ثورات الربيع العربي، والناجمة عن سقوط انظمة دكتاتورية فاسدة مستبدة وورثتها نظم لا تمتلك الخبرة او الرؤية المستقبلية لادارة المراحل الانتقالية واثارها المباشرة وغير المباشرة وفى ظل الازمات المتصاعدة فى العالم العربي تبرز امامنا الازمة التي يعاني منها العقل الجمعي وتحول دون غرس وتأصيل التفكير المستقبلي الحكومات سواء لدى صناع القرار او الجموع الشعبية بمختلف توجهاتها وتصنيفاتها ورؤاها وانتماءاتها الطبقية والثقافية، وهنا يجدر بنا ان نشير الي اهم اسباب غياب التفكير المستقبلى فى العالم العربى وتتصدرها انتشار الفكر القدري والتواكلي والاستسلام الجماعي للفكر السلطوي الذي يستهدف ضمان السمع والطاعة والغاء عقول المواطنين من خلال توظيف الادبيات الاساسية لتشكيل الوعي وتتجسد فى نظم التعليم والمؤسسات الثقافية والاجهزة الاعلامية وتعاني هذه الاليات من غياب التخطيط وتدهور مناهج التعليم وتراجع الثقافة الجادة وانتشار الثقافة الاستهلاكية التي لا تبني العقل والوجدان ولا تسعي لتطوير الانسان واما الاعلام فهو صوت للمعلنين وثقافة السوق ويعتمد على برامج الترفية والمنوعات والرياضة وبعيد عن مصالح مالكيه ولا يحرص على استطلاع اتجاهات الجمهور بل ويجهل جمهوره تماما، ويشير السبب الثاني الي علاقة الانسان العربي بالزمن الذين يعد أهم عناصر الرؤية الواقعية والعقلانية المتعلقة بقضايا وهموم المجتمعات العربية فى مساراتها التاريخية والمستقبلية. فالمواطن العربي اسير لرؤية بسكونية تتناقض مع قوانين التغيير والصيرورة ويغلب عليها الطابع الارتدادي والرجوع الي التاريخ والميل لتقديس التراث بكل تناقضاته واشكالياته. اما السبب الثالث فهو يتعلق بالظروف المجتمعية فى العالم العربي وتتمثل فى الاستبداد السلطوي والفوارق الطبقية الهائلة والتعليم التلقيني والتضليل الاعلامي، فالانسان العربي المقهور اجتماعيا وسياسيا يولد لديه الانكفاء على الذات المغلقة وعدم الانفتاح على التجارب المعاصرة كما يخلق لديه الخوف من المستقبل ويدفع الي جنون الاهتمام بالماضي تعويضا عن الحاضر القائم.

د. عواطف عبد الرحمن

التعليقات متوقفه