قضية للمناقشة: حرب المصطلحات .. والـمصـــالـــح

319

تدور على جانب الحرب العدوانية الاستعمارية على سوريا حرب أخرى موضوعها المصطلحات. ومن السهل على من يتابع وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء أن يتعرف بسرعة على مواقف البلدان والحكومات والأفراد المرموقين والساسة من الحرب على سوريا.. وإذا حصرنا المعرفة فى الواقع العربي وحده، ونحن نتابع وسائطه ومنصاته الإعلامية سيتبين لنا موقفان لا ثالث لهما يعكسان عند التحليل العميق طبيعة الصراع الدائر فى الوطن العربي، هذا الصراع الذي تمتد جذوره فى أرض انهيار حركة التحرر العربي، وهو الانهيار الذي أعاد رسم خريطة الأفكار والمواقف طبقًا للمصالح الجديدة التي ترتبت على هذا الانهيار، وطبقًا أيضًا لتوازن القوى العالمي الذي اختل ومال لصالح الإمبريالية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، وانفراد الدولة الإمبريالية الكبرى بالهيمنة على العالم.
وصاحب الإعلام والإيديولوجيا وبعض كبار المفكرين فى العالم وقائع هذا الانفراد بنشاط محموم، ونتج عن هذا النشاط ولادة مصطلحات جديدة، والسخرية المنظمة من ما أسموه «القاموس القديم» الذي استخدمته «العقول الجامدة « وهي تدافع عن مصالح الشعوب، وعن العدالة والكرامة الإنسانية حتى إن مصطلح « الامبريالية» أخذ يتراجع مع أنه هو الوصف الدقيق للرأسمالية الاحتكارية التي سادت أغلبية بلدان العالم بعد سقوط الاشتراكية، وتجنب هؤلاء وصف الغزو الاستعماري باعتباره غزواً، بل وصفوه أنه فائض قوة، وتصحيح لمسار النظم الاستبدادية.
كذلك نشط الاقتصاديون الذين تبنوا سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهيئة المعونة الأمريكية لتجميل وتسويق الرأسمالية المتوحشة التي أعطوها اسماً جذابًا هو «الليبرالية الجديدة».
وواكبت هذه التحولات والنشاطات عملية منظمة لتهميش الأمم المتحدة، وضربت البلدان الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل عرض الحائط بميثاقها وقراراتها، وواصلت إسرائيل التهام ما تبقى من أرض فلسطين وهو قليل واعترفت أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتمدت هذه الممارسات على رؤية أسطورية للديانة اليهودية حيث قيل إن الرب قد وعد اليهود بهذه الأرض، أرض فلسطين باعتبارهم شعبه المختار الذي يتفوق على البشر جميعاً.
وفى هذا السياق ذاته نشطت البلدان الاستعمارية فى دعم ومساندة كل عمليات دمج الدين فى السياسة لإحباط مشروعات الحداثة والتقدم، وكان الدعم الأمريكي والأوروبي لمشروع الحكم الإخواني فى مصر هو أكبر شاهد على هذه الحقيقة.
أما الشاهد الثاني والذي لا يزال حياً فهو تمويل وتسليح الجماعات الإرهابية فى سوريا.
وتواصلت على الجبهة الأخرى من الصراع عمليات المقاومة للنهج الاستعمارى الجديد، وذلك بعد أن فقدت هذه المقاومة أهم حليف لها وهو المعسكر الاشتراكي، ثم تراجع فانهيار حركة التحرر الوطني مع دولة الرفاه الاجتماعي فى بعض بلدان أوروبا. وبقيت هذه الجبهة الأخرى جبهة الشعوب والمناضلين من أجل مستقبل يليق بالإنسان هي الأوسع والأكبر، وهي فضلا عن ذلك تمسكت بشكل ما أنتجته من أفكار وقيم، وسمت الأشياء بأسمائها، فالاستعمار استعمار والاستغلال استغلال والظلم ظلم.
ولكن ورغم كل عناصر القوة التي تملكها هذه الجبهة الواسعة، فإن الأقلية المسيطرة على العالم والتي تقف على الجهة الأخرى، تملك مفاتيح القوة والهيمنة والنفوذ من التحكم فى التقنيات الجديدة، وفى الموارد الطبيعية والتدفقات المالية، وثورة الاتصال الجديدة، وفوق هذا وذاك أسلحة الدمار الشامل مع أجهزة الإعلام الجبارة ذات الإسهام الكبير فى صياغة وترويج المصطلحات الجديدة التي تتوافق مع سياسات الهيمنة واستغلال الشعوب ونهب ثرواتها، وتدمير تراثها وهو ما حدث بصورة واضحة ومقصودة فى كل من العراق وسوريا.
«لست مهزوما مادمت تقاوم « هكذا كتب المفكر الاشتراكي» مهدي عامل «قبل أن يطلق عليه الظلاميون فى لبنان الرصاص ويقتلوه ولم يكن هذا القول مجرد مساندة معنوية شعارية للمقاومين فى كل مكان، بل كان حصاد جهود بحثية وعلمية، قرأ عبرها المفكر الكبير المسيرة الإنسانية نحو التقدم والانعتاق، هذه المسيرة التي طالما اعترضتها الانتكاسات والعثرات بل والعنف الوحشي الذي مارسته قوى الاستعباد والاستعمار كذلك الذي يجري الآن فى سوريا، واليمن وليبيا وفلسطين.
وكما تعلمت قوى البطش دروس تاريخها الطويل منذ العهود الأولى للإنسانية، اكتسبت قوى المقاومة والعدل والمساواة خبرات جديدة تراكمت عبر العصور، ونسجت علاقات جديدة فيما بينها، وعرفت تجاربها كثيرًا من المخازي كالتي نشاهدها الآن فى الساحة العربية إذ تمول بعض بلدان النفط عملية العدوان على سوريا، مستخدمة نفس الأفكار والمصطلحات التي تستخدمها قوى العدوان، فبدلاً من وصف ما يحدث بأنه عدوان تكتب صحفها وأجهزة إعلامها أنها ضربات بعد أن سخرت بعضها قواعدها فى البر والبحر لإنطلاق الطائرات والصواريخ البالستية التي اعتدت على سوريا، وأصبح تعبير البلد الشقيق مثيرًا للسخرية.
ورب ضارة نافعة كما يقال فإن البلدان التي اتخذت هذا الموقف ضد سوريا وسلمت أموالها ومفاتيح إرادتها لواشنطن كشفت للشعوب العربية ببرهان ساطع ويا للعارـ زيف شعارات الأخوة والقومية التي تجترها هذه البلدان وعرفت الشعوب جيدًا أن القومية ليست»دما» و»جينات» فقط وليست مجرد تاريخ وجغرافيا أو أن الفصل بين المفهوم القومي ومفهوم التحرر هو محض زيف
وأنتج المثقفون التقدميون والاشتراكيون على مدى التاريخ الحديث أفكارًا وقيماً ومصطلحات ترتبت عليها مواقف فى الدفاع عن حقوق الشعوب وسيادتها، وابتكرت أشكالا لاتحصى من التضامن التي تمنح مفهوم القومية العربية بعدا أممياً فضلا عن العمق الإقليمي ويقول لنا التاريخ إن هناك لحظات تعلمنا فيها الوقائع دروساً قد تستغرق سنين لنتعلمها مثلما يحدث الآن فى منطقتنا إنها ليست حرب مصطلحات، بل حرب مصائر.

التعليقات متوقفه