قضية للمناقشة: خالد محيى الدين

161

برحيل «خالد محيي الدين» تنطوي صفحة مجيدة من تاريخ مصر الحديث، حيث ينطبق عليها قول الشاعر الكبير «محمد مهدي الجواهري» عظيمة المجد والأخطاء ذلك أننا لو شئنا أن نجد رمزاً ممثلا لكل تناقضات ثورة يوليو 1952 سوف يمثل أمامنا على التو» خالد محيي الدين» فقد أسهم الزعيم الراحل إسهاماً إيجابياً وهو ضابط فى القوات المسلحة فى تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، رفيقاً «لجمال عبدالناصر»، بعد أن كانا معا قد تعرضا للحيرة الفكرية والسياسية بحثا عن طريق إنقاذ للبلاد من براثن الثلاثي الذي جثم على أنفاسها طيلة عقود، أي الإحتلال الإنجليزي، والقصر الملكي، والرجعية المصرية من الباشاوات وعملاء الإنجليز والقصر.
تميز «خالد محيي الدين» وسط زملائه بثقافته الواسعة التي استمدها من ارتباطه بقوى اليسار، وكانت الثقافة هي دائما المدخل الأولي لهذه القوى لا فحسب لاختياراتهم السياسية، وإنما أيضاً لبناء القيم الإنسانية العليا، والتعرف على طبيعة الإستغلال الذي أنتج ما عانت منه مصر من فقر وجهل ومرض فضلا عن التفاوت الطبقي الفادح الذي وصفه «جمال عبد الناصر» بمجتمع النصف فى المائة حيث احتكار الثروة والسلطة، وسحق العاملين والكادحين أي أغلبية المصريين.
كانت الثقافة اليسارية المفتوحة على المستقبل، والمتطلعة إلى تغيير العالم إلى الأفضل، وفتح الأبواب أمام قدرة الشعب على تحرير نفسه والسيطرة على مصيره عبر هزيمة العبودية العصرية التي يحميها الاحتلال والاستغلال، كانت هذه الثقافة قد ساعدت «خالد محيي الدين» القادم من الثقافة العسكرية كأساس لتكوينه الفكري، ساعدته على ختيار الديمقراطية والدفاع عنها وصولا إلى الصدام مع زملائه من الضباط الأحرار وأعضاء مجلس قيادة الثورة إلى أن جرى نفيه من البلاد.
وكان هذا الصدام هو أحد وجوه التناقض فى خيارات يوليو، كما كان الاستخفاف بالحقوق الديمقراطية للشعب أحد الأسباب الجوهرية لكارثة الهزيمة فى حرب 1967، والتي لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت إخفاقاً شاملاً لنظام سياسي قام على الإنجازات المادية مستبعدا الملايين صاحبة المصلحة فى مشروع التغيير، والتي كان عليها فى ظل هذا النظام أن تتلقى الأوامر وتطيع دون أن تشارك، وحتى يجرى تطبيق هذا المبدأ أخذت دولة الثورة تبني نظامها الأمني الشرس على أساس مما كان قائماً فى العهد الملكي وزمن الاحتلال، وتفاقمت منذ ذلك الحين الممارسات المرعبة للدولة الأمنية البوليسية، والتي لا يزال الشعب المصري يكافح ضدها حتى بعد الموجات الثورية المجيدة التي شهدتها البلاد، وكانت ممارسات هذه الدولة البوليسية أحد الأسباب الجوهرية فى إنفجارها.
إنحاز « خالد محيي الدين « طيلة تاريخه السياسي الذي امتد لسبعة عقود أو يزيد لمصالح وأشواق الطبقات الشعبية والوسطى، وظل الباحثون والصحفيون يرددون سؤالا: مالذي دفع ابن الأسرة الغنية أي أسرة « خالد محيي الدين « وفيها الباشوات وملاك الأراضي الكبار إلى الانحياز للكادحين والفقراء والدفاع عنهم، وتباينت الإجابات عن هذا السؤال المصيري ليبرز فى القلب منها الدور الأساسي الذي تلعبه الثقافة التقدمية فى شحذ حساسية الإنسان تجاه الآلام وأشكال الظلم والاستعباد، وتجاه وطنه عامة.
وهكذا تبلورت شخصية «خالد محيي الدين» قائدا من طراز فريد، لم يمنعه تكوينه العسكري من اختيار الديمقراطية، ولم يمنعه ثراء أسرته من الإنحياز للفقراء، ولم يكن انحيازه من باب العطف والشفقة، وإنما انحياز للحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها كل المواطنين، وهنا يبرز مفهومه الآخر للديمقراطية، فهو لم يختزل الديمقراطية كما هو شائع فى أوساط الساسة التقليديين فى الإنتخابات التي تجرى كل بضع سنوات، بل هي آلية أشمل ذات مضمون اجتماعي قائم على المساواة الحقيقية وليست المساواة أمام القانون فحسب.
وحين إختار « خالد محيي الدين « الإنحياز للديمقراطية فى أزمة 1954 وهو ما جعله يصطدم مع « عبد الناصر « كان ينظر إلى الأبعد، إلى المستقبل، أي إلى الاشتراكية حتى وإن كانت قد أصبحت هدفاً بعيدا بعد التحولات العاصفة التي شهدها العالم، وأدت لإنهيار التجارب الاشتراكية.
وقبل هذه التحولات بما يقارب الربع قرن، كانت الحياة السياسية فى مصر تشهد بدورها تحولات عاصفة فى ذروة تناقضات 23 يوليو، والتي نشأت فى ظلها تجربة التعددية الحزبية المقيدة، وولد حزب « التجمع الوطني التقدمي الوحدوي « برئاسة « خالد محيي الدين « وبقى الحزب منذ نشأته مدافعاً عن اقتصاد وطني مستقل ومخطط لصالح الأغلبية من العمال والفلاحين والموظفين والمهنيين والطلاب، كما كتب «خالد محيي الدين» فى كتابه عن مستقبل الديمقراطية فى مصر، وظل الحزب سائرا بثبات ضد التيار الساداتي الذي تصالح مع إسرائيل وسلم مفاتيح البلاد 00000000.
وبرزت فى تكوين هذا الحزب ما يمكن أن نسميه رؤية سابقة لزمانها، ألا وهي السعي بصبر ومثابرة إلى بناء الأرض المشتركة بين الماركسيين والناصريين، بين الفكر الإشتراكي والفكر القومي، وبينهما معاً وبين التيار الديني المستنير، ولعبت شخصية « خالد محيي الدين « التي التفت حولها كل القوى المشكلة للحزب دوراً رئيسياً فى تطوير هذه الصيغة التي امتلأت بالتناقضات بدورها، لكنها برزت مع ذلك فى المجتمع السياسي المقيد باعتبارها إمكانية للمستقبل، ولم تصبح هذه الصيغة بعد موضوعاً للبحث الأكاديمي بفضائلها وعيوبها، شأنها شأن مجموعة القيم التي مثلها حزب التجمع « و» خالد محيي الدين « مع عدد كبير من المناضلين والمفكرين الذين أسهموا بإخلاص وشرف فى بلورتها والدفاع عنها لتأتي أجيال جديدة وتبني عليها وتطورها، وتبتكر قيما وآليات جديدة.
وداعاً «خالد محيى الدين».

التعليقات متوقفه