قضية للمناقشة: الإسلام.. و «برنارد لويس»

157

« ياله من خبر جميل، رحل أخيراً ملك الحقد، منظر صراع الحضارات ».
بهذه الكلمات القاسية علق السياسي اللبناني « وليد جنبلاط « على رحيل المفكر الأمريكي البريطاني « برنارد لويس « عن عمر تجاوز القرن بعامين، ملأ خلاله الدنيا وشغل الناس، وأصبح صوته مسموعاً ونافذا، وحين ندقق فى معرفتنا عن إنتاج ونشاط هذا المفكر الصهيوني، سوف نقول إن « جنبلاط» كان محقاً، رغم أن الشماته بالموت ليست من خصائص الثقافة والدين الإسلامي، فالشماتة مكروهة حتى لو كان الميت عدوا.
والحق أن « برنارد لويس « هو عدو من الوزن الثقيل لا للعرب والفلسطينيين فحسب، وإنما للتحرر الإنساني بعامة. فقد كرس « لويس» معرفته وثقافته الواسعة وأبحاثه التاريخية لبلورة وتأصيل مشروع تفتيت منطقتنا على أساس ديني، طائفى وعرقي لمصلحة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني من أجل هيمنة « إسرائيل» التي زرعها الاستعمار فى فلسطين على العرب جميعا، وتأييد نهب ثرواتهم، وإخضاعهم بصفة دائمة.
وإذا كان رجل الأمن القومي الأمريكي « صامويل هنتنجتون» قد بلور نظريته حول صراع الحضارات معتبرا أن الإسلام والمسيحية الشرقية يشكلان خطراً كبيراً على حضارة الغرب المتقدم، إذا كان أسس هذه النظرية من الزاوية السياسية ليرشد دوائر القرار « الأمريكي الأوروبي» إلى ضرورة خوض صراع الحضارات ضد هذا التهديد، فإن « لويس « غاص عميقاً فى تاريخ منطقتنا وثقافتها ومعارفها ليعزز مشروع صراح الحضارات، معتمداً على نصوص دينية بلا سياق، ومتجاهلا ما كان يعرفه جيدا عن الأدوار المجيدة التي لعبتها الثقافة العربية الإسلامية فى فتح الأبواب أمام أوروبا فى العصور الوسطى المظلمة لتصنع نهضتها، ويعرف أي باحث مبتدئ فى تاريخ الفكر الدور المحوري الذي لعبه المفكر الإسلامي « بن رشد» فى النهضة الأوروبية.
وقبل أن أستطرد لابد من تأكيد أن بعض الأفكار السلبية فى النصوص الدينية الإسلامية ليست من اختراع المستشرقين، بل إنها موجودة فعلا، ولكنها كانت دائماِ شأنها شأن كل نتاج فكري إنساني بنت زمانها وظروفها، والرؤية النقدية الشاملة للتراث هي وحدها كفيلة بإزاحة السلبي وتعظيم الإيجابي فيه.
كما أن هناك حقيقة كبرى أخذت تشق طريقها بانتظام فى ثقافتنا بعد هزيمة حركة التحرر العربي، وسقوط منطقتنا فى قبضة التبعية، فمع هذه الهزيمة تفننت القوى الرجعية فى العالمين العربي والإسلامي فى محاصرة وقمع كل اتجاهات التجديد فى الفكر الديني الإسلامي، وقطعت الطريق على نموها الطبيعي، وهمشت المفكرين المبدعين، وازاحتهم بانتظام عن المشهد ليحل محلهم دجالون وأدعياء وكأنما ينفذون أجندة دعاة صراع الحضارات بحذافيرها وهم يقدمون هذه الصورة السلبية للإسلام التي تروج لها أجهزة إعلام ووسائل اتصال جبارة، دأبت على اختلاق الأكاذيب وترويجها باعتبارها حقائق حتى يثبتوا أننا متخلفون، ونستحق المصير الذي قررته لنا القوى الأمبريالية والصهيونية.
يقول « محمود درويش « :
« المغول « يريدون لنا أن نكون / مثلما يبتغون لنا أن نكون.
ويجري التنكيل فى عالمنا بالمفكرين المجددين، بعضهم يذهب للمنافى فى حالة النجاة، وآخرون يقبعون فى السجون، وصولا إلى القتل، كما حدث مع المفكر « فرج فودة « وعشرات من المثقفين التنويريين فى الجزائر من مسرحيين وباحثين وشعراء، خلال ما سمى بالعشرية السوداء، حيت اتخذ الصراع السياسي شكلا دينيا.
وهكذا تحمل المفكر الفلسطيني الراحل « إدوارد سعيد « وحده تقريبا مهمة الرد العلمي القوي، والنزيه على افتراءات « برنارد لويس «، سواء فى ذلك منهجه الذي يلبس ثياب العلم بينما هو يخاصم أسسه بانعدام النزاهة، أو فى التفاصيل التي ينتزعها من قلب الوقائع والصراعات ليثبت عدم جدارة المسلمين بالمطلق كتبرير لوجود إسرائيل وأدوارها كذراع للقوى الأمبريالية وبإدعاء أنها تعمل على « تحضر» المنطقة المتخلفة، كما كان إدعاء الاستعمار والاستعباد على مر التاريخ.
وكان رد « لويس» على « إدوارد سعيد « مفعماً بالكراهية والعنف وصولا إلى الألفاظ البذيئة لأن « إدوارد سعيد « كشفه، بل ربما كان الأدق أن نقول أنه « عراه» علمياً، مفندا كل أكاذيبه وإدعاءاته و» كراهيته» للعرب والمسلمين.
ونشطت القوى الصهيونية بعد موت « إدوارد سعيد « فى طمس تراثه والتعتيم على كتبه وإضافاته حتى تترك الساحة « لبرنارد لويس» يبث دعاياته السوداء باسم العلم للمشروع الصهيوني، وللمخطط الامبريالي القديم الجديد.
ولم ننجح نحن المسلمين والعرب فى تقديم مفكرين كبار آخرين بعد « إدوارد سعيد « مسلحين بالعلم، والمعرفة والمنهج لأننا استئصلناهم واحدا بعد الآخر، وكان سعيد قد نجا لأنه عاش فى الغرب وشملته حماية القوانين ومناخ الحريات الأكاديمية وهناك عدد من الأساتذة والباحثين العرب والمسلمين، الذين يعملون فى الجامعات الأوروبية والأمريكية ويقدمون اضافات باهرة.
لا يكفى إذن أن نكره « برنارد لويس « الذي سيبقى عمله ومنهجه حيا لأجيال قادمة إلى أن تنتصر اتجاهات التجديد فى الفكر العربي الإسلامي، ويكون بوسعنا ان نقدم للعالم مفكرين تنويريين بقامة « إدوارد سعيد « وأفضل، وهو صراع كبير سوف يستمر زمناً طويلا بطول الزمن الذي تحتاجه حركة التحرر العربي، وهي تنهض من رماد الهزيمة والخذلان، ويحصل الشعب الفلسصيني على حقوقه وتصل موجات الثورة المتعاقبة إلى أهدافها، وتهزم الشعوب مخططات الرأسمالية المتوحشة، وهي ترمي فى نضالها مفاهيم حوار الحضارات وتكاملها، لا صراعها كما أراد « برنارد لويس « وسلفه صامويل هنتنجتون، وإن غدا لناظره قريب.

التعليقات متوقفه