الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق على التجربة المصرية

136

يقولون إن “الدولة” بوصفها الكيان السياسى الأكمل حتى الآن، تتميز عن غيرها من الموجودات الاجتماعية بخاصية “احتكار العنف”، بما فيه “العنف المسلح”، ونراها حقيقة. ففى حالة الكيانات السياسية “ماقبل الدولة”، وإن شئت فقلْ : قبل العصر الحديث وفق التحقيب الأوروبى، وجدنا أن السلطة العامة التى تمارسها باسم مجموعة اجتماعية معينة، كانت محل منازعة قوية من قبل المجموعات الاجتماعية المختلفة الأخرى. لقد كانت الدول المستقرة حينئذ تتمتع سلطاتها بقدر واسع نسبيا من الشرعية، و من المشروعية القانونية، طوال شطر كبير من التاريخ المكتوب، عبر الحضارات القديمة كما فى الشرق الأدنى القديم وحضارة وادى النيل، وكذا الحضارة الوسيطة وأبرزها الحضارة العربية الاسلامية التى استمرت قوتها الذاتية ودافعيتها الجمعية عموماً زهاء عشرة قرون (من القرن السادس إلى السادس عشر الميلادى).
الخلافة الراشدة
وهكذا كانت الدولة، بشكل عام، تمارس السلطة فى قلب خضم من المنازعة الاجتماعية المستمرة من قبل الكائنات المجتمعية المختلفة، المنظّمة غالباً، سواء كانت هذه المنازعة آخذة الشكل العفويّ أو النظامى، وبينهما درجات كثيرة. بل وكانت الدولة فى حالة الاتساع المفرط لإقليمها المسيطر عليه، مادياً أو معنوياً، الدولة الإمبراطورية، تتسع لعدد من السلطات الفعلية المتنوعة، سواء داخل المركز نفسه (عاصمة الدولة)، أم فى المناطق الطرفية (أو الولايات حسب التعبير التراثي). وتلك هى الحالة التى اتّسمت بها “الدول” الإسلامية المتتابعة المعروفة فى بطون كتب التاريخ، ابتداء من “الخلافة الراشدة” إلى الأموية فالعباسية والفاطمية فى المشرق العربى الحالي(ومن بعدها : الأيوبية فالمملوكية) مقابل دول الأدارسة والأغالبة ثم المرابطين فالموحدين وغيرهم (فى المغرب) – ومن بعد فى الجميع تقريباً : الدولة العثمانية.. وكان للأندلس تاريخ مشابه خلال القرون السبعة وأكثر، التى استغرقها الحكم العربى فى أسبانيا، عبر الخلافة الأموية، ثم ما يعرف بــ (ملوك الطوائف).
النظام الاقطاعي
مقابل الحضارة العربية الإسلامية، كانت أوروبا فى شطرها الغربى خلال العصر الوسيط مسرحاً “أنموذجياً” لتنازع السلطات داخل “الامبراطورية الرومانية المقدسة” فى إطار النظام الإقطاعى “الأنموذجى”، ودع عنك تنازع السلطة بين الإمبراطور وبابا الكنيسة الكاثوليكية. وكان الشطر الشرقى المسيطر عليه من قبل الامبراطورية الرومانية الشرقية أو “البيزنطية” مسرحاً مناظراً لتنازع السلطات بين المركز والأقاليم الطرفية، وداخل كل إقليم على حدة (حالة مصر مثلاً قبل الفتح العربى).
ما قبل الدولة
أما العصر الحديث الأوروبى فقد تميز سياسيا، أول ما تميز، ببزوغ الدولة ككائن جمعى يمارس سلطته على إقليم مخصوص معيّن الحدود، يعيش فيه “شعب” يملك حق تقرير مصيره الجمعي فى إطار “الدولة – الأمة” أو “الدولة القومية” Nation-State.. لكن “الدولة القومية” فى الغرب، بقيادة البورجوازية الصاعدة زراعياً فتجارياً وصناعياً ثم مالياً وتكنولوجياً، قد “حققت ذاتها” عبر “الاستعمار” كظاهرة وسمت العلاقات الدولية تحت ظلال “الرأسمالية العالمية”، وذلك من قِبل أوروبا الغربية ( والشمالية) إزاء كل من عالم ما وراء البحار over seas (إفريقيا وآسيا عموما) والعالم الجديد (الأمريكتين) والأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلند).
فى ضوء ما سبق، يمكن القول إن العنف المسلح الممارس من الكيانات المتنازعة فيما قبل الدولة الحديثة – بالمعنى الأوروبى – أصبح محرماً مجرّماً فى “الدولة”، سواء الدولة الغربية العريقة (نسبياً) أو دولة ما بعد التحرر من الاستعمار فى آسيا وأفريقيا وأمريكا – أى فى عصر “ما بعد الكولونيالية”.
بهذا المعنى أصبح احتكار العنف المسلّح أبرز خصائص الكيان المجتمعى المسمى بالدولة. ولكن الدولة وفق المعنى المذكور، فى إطار المثالية السياسية فى الفكر الغربي السائد، (ينبغي) أن تقوم على التوافق المجتمعى الحر، الذى تذعن الكيانات الفرعية من خلاله للولاء الطوعى للكيان الأكبر، على قواعد من التشارك الاقتصادى، ونوع من التكافؤ الاجتماعى، و المشاركة السياسية المتنامية ضمن الديمقراطية، حمّالة الأوجه.
سطوة الرأسمالية
و هكذا، لا يكون احتكار العنف خاصية مجانية للدولة، ولكنها سمة مخلّقة من باطن الممارسة الاجتماعية المعقدة، فلا تكون محض ميزة مضافة لقوة اجتماعية بعينها فى مواجهة سائر القوى.
فهل تحقق ذلك بالفعل ؟ لا لم يتحقق. ولم يتحقق فى الغرب الأوروبى بالذات، نتيجة التكوين الطبقى ذى الطابع الانقسامى الأشدّ فى ظل سطوة الرأسمالية، وما تلاه من مظاهر لصراع طبقى صارخ، وخاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واشتد تحت وطأة تفاقم الاحتكارات. فقد وضع كل ذلك قيوداً حديدية فى العالم الأوروبى، ثم فى الامتداد الأوروبي بأمريكا الشمالية منذ (استقلال) الولايات المتحدة عام 1776 سواء على حدّ التشارك الاقتصادى، كما ينبغى له أن يكون، أو التكافؤ الاجتماعى من ثم، فالمشاركة الجماعية الحرة فى السلطة العامة.
أما “دمقرطة العلاقات الدولية” فكانت سرابا من السراب فى ظل الاستعمار الأوروبى للقارات الثلاثة – إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية – بل ولم تبرز على مسرح الفكر الاجتماعي والخطابات الإيديولوجية، إلا فى عالم ومرحلة “ما بعد الحرب العالمية الثانية”، فى إطار ظروف خاصة معقدة، أبرزها تشكل المجموعات الدولية الثلاثية آئنذ : الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والكتلة الشرقية (الاشتراكية) بقيادة الاتحاد السوفيتى، وعالم حركات التحرر الوطنى وعدم الانحياز فى “العالم الثالث” أو “القارات الثلاثة”.
حول الاعتراف والانكار
فى إطار ترسخ الدولة ككائن سياسى، تحت لواء الشعار الديمقراطى، وتسرب أفكار التكافؤ والعدل الاجتماعى فى ظل “الكينزية” فى الغرب و “الاشتراكية” فى الشرق و “نمط التطور اللا رأسمالى” فى العالم الثالث، من 1945 إلى 1975 تقريباً، تم الاعتراف، فى الغرب خاصة، بأن العنف المسلح الممارس من قبل الفواعل غير الدولة يعتبر عملاً محرماً، ومجّرماً داخل الدولة لتحقيق أهداف خاصة لمجموعات بعينها باعتبارها “إرهاباً. وهذا ما نعتبره “العنف محل الإدانة”، العنف المدان. وقد تم ذلك الاعتراف، رغم حالة “الإنكار” العملى لجوهر العنف المدان والإرهاب، التى جسدها التدخل الاستعمارى من دول الاستعمار القديم والجديد فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وما حروب كوريا وفيتنام وحرب الجزائر التحريرية سوى أمثلة بارزة على جدل الاعتراف والإنكار.. ثم أن مثالاً فجّا واستثنائيا إلى حد بعيد للاستعمار قد برز فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو الاستعمار الصهيونى، العنصرى الاستيطانى، فى فلسطين (1948-..). وقد مارس الكيان السياسى الصهيونى الاستيطانى تجاه الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال ما أصبح يطلق عليه “إرهاب الدولة”. كذلك إذن، أصبح الإرهاب كظاهرة عامة قرينا لإرهاب الدولة كظاهرة مخصوصة ولصيقة إلى حد كبير بممارسة الكيان الصهيونى. وإن لإرهاب وإرهاب الدولة، وجهين : وجه غير مجسد ووجه مجسد. الأول غير ملموس، كعنف رمزى وإيديولوجى وسياسى ودعائى وإعلامى، قائم على “القهر” كظاهرة كلية. والثانى مجسد ملموس، مادى،، اقتصاديا وعسكريا، وبالذات عسكريا، كعنف مجسد بالسلاح، عنف مسلح باختصار. ولا يعمل هذا الإرهاب وإرهاب الدولة، منعزلاً عن المحيط المجتمعى الداخلى والخارجى، فكلاهما يغذى ويتغذى بالآثار التفاعلية الارتباطية، داخل نظام “الفعل ورد الفعل” على الدوام.

د. محمد عبد الشفيع عيسى

التعليقات متوقفه