قضية للمناقشة: رحـلــة «كريمة» و«جودة»

190

حكاية «كريمة» و»جودة» بين تحدي الوجود وإرادة الصمود هي حكاية مصرية بإمتياز تماما كما اختارا أن يصفاها، حكاية تليق بشعب متحضر قديم، شعب راكم عبر آلاف السنين خبرات ومعارف وثقافة أضاءت كلها ظلمات العالم القديم.
قليلة، بل ربما نادرة هي كتب السيرة الذاتية التي تنبض بالصدق والمكاشفة الصريحة، ومنها هذا الكتاب الجديد الذي شارك الزوجان فى كتابته، وقدما خبرتهما للأجيال الشابة لتتعلم هذه الأجيال دروسًا ثمينة فى الإصرار والمثابرة، فى حب الوطن والعلم، فى اختيار الهدف ورسم الطريق إلى تحقيقه فى رحلة صعبة ظل الحب هو دائمًا زادها، إذ اكتشف المحبان عبر هذه الرحلة أن لديهما طاقات كامنة أضاءتها الصعوبات، فانطلقا ببصيرة ثاقبة نحو الهدف رغم المعاناة وشح الموارد إلى حد الجوع أحيانا.
كان المحبان محظوظين لأن تجربتهما المشتركة كطالبين فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي التحقا بها فى أول نشأتها، هذه التجربة الثرية، استمدت بعض عنفوانها من مصر الستينيات الطامحة للاشتراكية والوحدة العربية، مصر التي أممت شركة قناة السويس، وردت العدوان الثلاثي، وشرعت فى بناء السد العالي، وقادت أول تجربة للوحدة العربية فى العصر الحديث بين مصر وسوريا، ثم تعرضت لهزيمة 1967 التي عصفت بالأحلام والطموحات، ولكنها كشفت فى نفس الوقت عن بعض إمكانيات الشعب المصري الكامنة، الشعب الذي رفض الهزيمة، وقرر مواصلة طريق التحرر الشامل.
نتعرف فى هذا الكتاب الجميل على الأثر المباشر الذي أحدثته ثورة يوليو فى البناء الطبقي فى مصر، وهي تطبق ضمنياً شعار عبد الناصر « تذويب الفوارق بين الطبقات»، والدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة فى «ردم» ما سماه «جودة عبد الخالق» هذا «الفالق» الطبقي، إذ انتمت «كريمة كريم» التي أحبها من النظرة الأولى مثلما يحدث فى السينما إلى أسرة ميسورة من الطبقة الوسطى بينما جاء هو من عائلة فلاحية فقيرة، وكان سلاحه فى مواجهة الفقر هو الاجتهاد والتحصيل العلمي المثابر، والتشبث بالقيم الإيجابية واحترام الذات والثقة فى النفس.
يقول «جودة» الذي يحكي هنا بضمير الغائب ابتغاء الموضوعية الخالصة :»كان ارتباطه» بكريمة كريم» عملية معقدة للغاية، لأنها كانت تتطلب عبور فالق اجتماعي واسع وعميق بين أسرتيهما، والواقع أنه لولا الحراك الاجتماعي الذي أطلقته ثورة 1952، لكان من المستحيل أن يتم ارتباط بين طرفين تفصلهما مثل هذه الهوة الاجتماعية السحيقة».
يطرح الكتاب بتلقائية محببة الكيفية التي يتحول بها الخاص إلى عام، والشأن الشخصي إلى شأن سياسي، نعرف كيف استماتا فى التشبت بحبهما لمقاومة الإحساس المرعب بتصدع المشروع الوطني على خلفية الهزيمة المدوية فى إشارة إلى هزيمة 1967.
وحين سافر «جودة « إلى كندا سعيا للحصول على درجة الدكتوراه فى علوم الاقتصاد، وفى إنتظار أن تلحق به «كريمة» كان يكتب لها رسالة كل يوم «لأعبر لها عما يجيش فى قلبي نحوها ونحو الوطن».
ظلت مصر حاضرة فى كل صفحات الكتاب رغم أن معظم ما يحكيه المحبان كان يقع فى كندا حيث كافحا ليتقبلهما المجتمع العلمي، وتعرفا على مكوناته، ووقف فى طريقهما أستاذ صهيوني فى محاولة لإعادتهما إلى مصر «بخفى حنين» كما يقولان، وكأننا أمام نسخة جديدة من العلماء المصريين الذين لاحقهم الصهاينة فى أوروبا وأمريكا وصولا لقتل بعضهم.
دفع بهما هذا الحضور المصري للعودة إلى الوطن رغم الإغراء الكبير، والعرض السخي الذي قدمته لهما جامعتان ليبقيا فى كندا وينضما إلى هيئة التدريس، ولكنهما قررا العودة بسلاسة وتواضع لأن وطنهما أولى بهما وبعلمهما رغم حاجتهما للمال وهما فى أول حياتهما.
ويستحق بناء هذا الكتاب قراءة أدبية، لأنه كتابة مشتركة يحكي فيها كل منهما التجارب ذاتها التي عاشاها فى كل من مصر وكندا، والمعاناة الدرامية ذاتها، فى كندا تقول كريمة «كنا نخرج كل يوم من المنزل على باب الله، بحثا عن عمل، كنا بحاجة شديدة إلى استجماع كل قوة المقاومة داخليا».
وكان بوسعهما لو قبلا الجنسية الكندية أن يوفرا على نفسيهما كل هذا العناء، ولكنهما رفضا بمنتهى البساطة، وابتدعا حيلا كثيرة لتخفيف الشعور بالألم والمرارة، والتعب « فما أقسى أن يجمع الهم الخاص والهم العام معا، وهذا بالتحديد ما عانا منه فى ذلك الصيف الرهيب، صيف 1969 ( كانت حرب الاستنزاف على أشدها).
وسوف نعرف أن لدى كل منهما حصيلة جيدة من الأشعار وهو مالا نجده إلا نادرًا لدى المتخصصين فى العلوم.
وتدلنا القراءة المتأنية لهذه السيرة الغنية لا فحسب على تجربة «كريمة كريم» و»جودة عبد الخالق» ولكنها تتسع لتشمل آلاف الأسر المصرية بخاصة فى قصة انتقال «جودة» وأسرته من القرية إلى المدينة حتى يتحصل الأبناء على العلم، إذ شعرت كأنه يحكي عني وعن أسرة «النقاش» الفقيرة بدورها والتي لعبت فيها الأم دورا محوريا رغم أنها أمية، وانتقلت الأسرة أيضا إلى القاهرة ليتعلم الأبناء فى الجامعات، ويتكشف للكافة عوار المركزية الشديدة فى كل من السلطة والتنمية.
وفى طريقهما إلى الجامعة الجديدة التي حصلا على منح منها لإعداد رسالتيهما للدكتوراه يكتب «جودة» لقد زال الخطر، وانتصرنا على « نيهر « الصهيوني، بعد أن انتصرنا على ضعفنا أولا.. هذه خاتمة الحكاية، وبداية مرحلة جديدة، وفى هذه الجملة البليغة إشارة إلى الطريق الذي نحن مدعوون لقطعه حتى ننتصر على الصهاينة أي أن ننتصر على ضعفنا أولا.
تحية للعزيزين «كريمة كريم» و»جودة عبد الخالق».

التعليقات متوقفه